الجمعة 26 ابريل 2024

ليس شُحًا بل تقديرًا للنِعَم

مقالات23-10-2021 | 15:23

طُفتُ معظم بلدان العالم منفتحة على العديد من ثقافاته وأديانه وأعراقه المختلفة، رأيت العديد من السلوكيات المغايرة لتلك خاصتنا من المُمَيِزات لنا كالكرم وحسن الضيافة وطيب الكلام والمجاملات المتبادلة قولًا وفعلًا.

وبمرور الوقت واستيعابي لمفردات العالم من حولي، رأيت وقع سلوك الكرم هذا وتفسيره من الآخر على أنه سذاجة وتبذير وبذخ في غير موضعه، فنظرة معظم الغرب لتلك القيم هي نظرة استنكارية يحذوها الاستهزاء بشخوصنا باعتبارنا نميل إلى الاستعراض بالمقدرة على حساب قدراتنا الفعلية، غير آبهين في ذلك بمعايير إكرام الآخر ومبادلته الكلام الطيب، فهم شعوبًا تعدت في جفاءها وقسوتها حدود السلوكيات العملية والأنانية.

على كل حال هو ليس هجومًا ورفضًا للآخر بقدر ما هو إقرار للواقع مقارنة بين الطرفين، والذي في تصوري نجحت العديد من الأجيال الحالية في تذويب تلك الفجوة بشكل أو بآخر، نتيجة ذوبان العديد من الهويات بعد ارتفاع نسب السفر والهجرة من الجنوب للشمال ومن الشرق للغرب سواء للتعليم أو العمل، وبالتبعية ارتفاع نسب التزاوج بين الجنسيات المختلفة، وهو ما نتج عنه ميلاد أجيالًا جديدة تحمل في جيناتها خليطًا يشبه وجبة "الكشري" المصرية تعلوها صلصة الكاتشب.

الغريب في الأمر، أنني رأيت بعينٍ متأملة أن العديد من سلوكيات الغرب بها الكثير من تعاليم الدين دون وعي أو قصد منهم، فالباحث في تفاصيل يومهم العادي جدًا، يجد احتياجاتهم من مأكل ومشرب وباقي الاحتياجات هي بالضبط ما تكفي قدر الحاجة، في حين تجدنا نحن الشرقيون العرب مسلمون ومسيحيون نتكالب على شراء ما يزيد عن احتياجاتنا الفعلية بأضعاف الطبيعي والمطلوب، وهو ما ينتج عنه فوائض ضخمة جدًا تُلقَى جميعا كفضلات لا تَصلُح للاستخدام ولا حتى لإعادة التدوير بما يقلل من نسب الهدر، لأنها مفاهيم تتأتى من قناعة الجماهير أولًا قبل الحكومات، وهو الأمر الذي يفسر الدراسات التي وصلت لنتائج مفزعة تشير إلى أن نصف موائد العرب تٌلقى في القمامة.

 فالباحث في منازلنا يجد فوائض المآدب والمناسبات العائلية يفوق حاجتها إلى القدر الذي قد يمكن أن يَتَعَيّش عليها مجموعة كبيرة من الأسر الأخرى، والمُحزِن في الأمر أن العديد من ربات البيوت يقمن بإلقاء ما تبقى في صفائح القمامة دونما أدنى إدراك لأن أفواهًا جائعة قد تقتات على لقمة واحدة لعدة أيام من تلك اللقيمات الملقاة لحشرات وبكتيريا المخلفات.

والمضحك في الأمر من ناحية أخرى، أن العديد من الشرقيون المنبهرون بالغرب ووصفاتهم كأكلة "الباييا" الإسبانية، وهي الأكلة الشعبية الرسمية الأكثر طلبًا في إسبانيا، لا يعلمون أن أصل الكلمة يرجع إلى كلمة "بقية" وهي فوائض الأكل مما تبقى من مآدب الأسر الحاكمة في الأندلس (من أرز ولحوم وأسماك) التي كانوا يتركونها لأطقم الخدم.

والأمر ذاته في نعمة الماء التي استمرئها معظم المصريون وأساءوا استخدامها بما يخالف تعاليم المصريين القدماء في تقديس مياه النيل، فرؤيتهم لمجرى النيل ممتلئً طول الوقت جعلهم في حالة اطمئنان غير مشروطة بحسن الاستخدام، وصلت إلى مرحلة اعتياد النعمة والأكثر إيلامًا هو سوء استخدامها، فهم يتركون صنابير المياه بالمنازل والمساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية على مصراعيها معظم اليوم دونما استخدام فعلي، ويغسلون سياراتهم بخراطيم المياه المفتوحة أيضًا على مدار الساعة، ويروون أراضيهم بالغمر لا التنقيط الذي بدأ الالتجاء إليه مؤخرًا، أي استهزاء هذا بأكبر نعمة منحها لنا الخالق واشتق منها خاصية الحياة، ولم يدركوا حقًا قدر النعمة إلا حينما تم تهديدهم في مقتل في ليلة وضحاها فهبوا صارخين مولولين في وجه الدولة دون أي التفات أو تغيير يُذكَر في مهانتهم للنعمة.

وقد عاصرت في العديد من الدول الأوروبية فترات التحول في ترشيد استخداماتهم للموارد (أصل نشأة علم الاقتصاد)، وبما يتماشى مع التوجه العالمي للتنمية مع الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة بما يسمى "التنمية المستدامة"، ففي إنجلترا مثلًا لا حصرًا، قامت العديد من المؤسسات باستبدال الصابون السائل الذي كان بديلًا للصابون العادي بعد اكتشافهم لكمية الهدر الفائض منه وكذلك من منطلق تفادي العدوى، فهم الآن يستخدمون الفووم بديلًا عن الصابون السائل بما يقلل تمامًا من هدر الصابون السائل الذي قد لا يستخدم كله في مرة الغسل الواحدة وهو ما يمثل فاقدًا مُهدرًا غير مستغلًا.

إلى هذا الحد ينكب العالم من حولنا على تكريس وقتهم وقدراتهم في مدى كيفية الاستخدام الأنفع للموارد مع تقليل الهادر منها، في نفس التوقيت الذي ننشغل نحن فيه بتسجيل متطلبات رمضان، والأعياد، وشم النسيم، وموسم المدارس والمصايف، والتضييق على أنفسنا من أجل بلوغ حد الكمال في الامتلاك والامتلاء والاكتفاء والاكتناز المُمرِض.

فضلًا ورجاءً بكل المعايير الإنسانية والدينية والمنطقية، مراعاة فضل النعم كضرورة حتمية لاستمرار الحياة، فدوام الحال من المحال، والأصل في الأمور هو تقدير الموارد وترشيد استخدامها، وهو أمر ليس ببُخلًا ولا إجحافًا ولا شُحًا بمنطق السُذّج محدودي الأفق، هو تطبيق حي لكل معايير الأديان والقيم الإنسانية البديهية.

Dr.Randa
Dr.Radwa