السبت 27 ابريل 2024

جولة ليست خاطفة في مدينة الألف مئذنة


علي الهلالي

مقالات29-7-2021 | 15:17

علي الهلالي

حين انطلقت من ميدان التحرير، متجها صوب ميدان طلعت حرب، كانت حركة الناس والباعة الذين يفترشون الأرصفة، تعرقل مسيرتي إلى حد التوقف، وكنت على عجل لدرجة لا يمكن تخيلها حتى ليظهر، وكأنني في سباق أبغي أن أحقق فيه قصب السبق، أستحث الخطى، حتى أكاد أهرول وسط أناس خرجوا لقضاء وقت، من أجل التبضع والاستمتاع بيوم، في أحضان قاهرة المعز، لا أجمل منه ولا أروع.

 توترت وحاولت أن أسرع أكثر، لكن الحشود البشرية كانت تعيق حركتي، وتعرقل تسارع خطاي، وتؤخرني.. من المستحيل أن أسرع أكثر.. هذا ما كانت نفسي تحدثني به، لكنني كنت أرفض الاعتراف بهذه الحقيقة.

تركت الرصيف لأسير في نهر الطريق بشارع قصر النيل، تاركا تلك الضفة لمن كان يمتلك الوقت، وينتشي بسيره المتهادي.. ورغم الألم في قدميّ من الحذاء الذي تصورته ضيقا.. ورغم حالة الاختناق التي كنت أعيشها، جراء تحالف رابطة العنق، مع الجو الحار الذي يميز القاهرة، فإن ذلك لم يكن عائقا، إذ تمكنت من تجاوز ذلك البائع، الذي كان يجلس القرفصاء، أمام كتب احتلت ثلاثة ارباع الرصيف، وكدت أتعثر في نزار قباني، الذي توسدت دواوينه تلك الحافة، التي اختارها البائع لها بعناية.

وتعرّقت يدي على الدوسيه، الذي كنت أحمله، وأعتصره بقوة، حتى يكاد أن يصبح جزءا مني، محاولا اللحاق بالموعد، فاجتماعات اللجنة العليا المشتركة الليبية المصرية، ستنعقد خلال أقل من نصف ساعة، وإن لم أكن قبل ذلك في المكان، فلن يتاح لي الدخول، وأنا لا أريد أن أتعطل، فالمناسبة كبيرة، وكنت أقود فريقا كبيرا من الصحفيين والإعلاميين، لمواكبة هذه المناسبة، التي كانت تشكل نقطة فارقة، وكان لا بد أن أصل في الموعد، لأن الجميع ينتظرونني لكي نبدأ عملنا، ولم أشأ أن أكون آخر من يصل.

كان الهاتف يئن وأزراره تتراص تحت أصابعي، التي أرهقتها، وأنا أعاود الاتصال بالفريق الصحفي، المصاحب لي في متابعة هذه الاجتماعات، واتلقى اتصالا من مقر الصحيفة بطرابلس، وإزاء كل هذا وجدت أن الوقت لن يسعفني، فلا أنا عداء كي أستطيع أن أطوي المسافات في زمن قياسي، ولا شوارع القاهرة سهلة العبور، لأنها تغص بالناس، الذين ينشدون التجول والفسح في مدينة تختزل التاريخ والجمال، وأيضا لا يمكن تجاوز باعتها الذين بإمكانهم أن يقنعوا الأصلع بحاجته لمشط الشعر بأسلوبهم الجميل، وروح الفكاهة التي يتميزون بها، وترحابهم الذي يجعلك تخجل من أن تردهم خائبين.

كان عليّ أن أستقل سيارة، لذا قررت أن أوقف أول تاكسي يمر من أمامي، فتقدمت وسط الطريق، وإذا بصوت فرملة قوية، واحتكاك إطارات بالأسفلت، وصراخ رجل يرتفع عاليا: "حاسب يا باشا". 

انتبهت على أثر هذا النداء التحذيري، وإذا بي في ذلك الشارع، وأحمل في يدي كيسا، به بعض الأغراض التي اشتريتها عقب الخروج من عيادة كنت أجري فيها كشوفات طبية، لأقيق على أنني في العام 2021، وأن هناك مسافة زمنية تتجاوز 14 سنة، تفصلني عن تلك المناسبة، التي زرت فيها القاهرة، خلال رحلة عمل.

يا الله كم هي بعيدة المسافة بين تلك الأيام وهذه.. بين القاهرة في تلك الأيام، والقاهرة التي اكتست حلة قشيبة حاليا، لتصير كعروس تتزين بشكل لا يتخيل أحد أن يحدث في هكذا ظروف، ولا في هكذا زمن. 

يا الله كيف امتصت شوارع قاهرة المعز، بلد الألف مئذنة، ذلك الزحام الذي كان يربك الحركة فيها، وكيف استطاعت أن تمنع الجلطة التي تتسبب فيها اختناقات سيارات مريديها في شرايينها التي تتغلغل في حواريها وأحيائها، التي لن تكون قادرا على أن تجوبها حتى ولو كنت ابن بطوطة.

في هذه المسافة الزمنية، التي لا تذكر، اختزلت أم الدنيا ردحا من الزمان، إذ يمكن القول أن كباريها نمت بشكل أسرع من نمو نبات الخيزران، الذي يقول علماء الزراعة إن بعض أنواعه تنمو بمعدل مترين في اليوم الواحد.

في هذه الحقبة، التي ظن الآخرون فيها أن مصر ستلفظ أنفاسها، استطاعت أن تعود هي لتصبح رئة للمنطقة، تمنح الروح لمن يلجأ اليها ينشد الحياة.

لقد قلبت أم الدنيا كل الموازين، وجعلتنا نتوه في شوارعها، بعد أن تغيرت معالمها بين يوم وليلة.. صارت الدنيا غير الدنيا، ودبت الروح في بلد يتنفس التاريخ، منذ أن مر بها عمرو بن العاص وضرب فسطاطه، إيذانا بدخول الإسلام إلى مصر.

أكملت جولتي لأحط رحالي في حديقة عابدين، حين استفزني جمال المكان، ولأعيد منه قراءة تاريخ المحروسة بعين الله، ومن باب اللوق إلى حيث محطتي التالية في الأزبكية كانت رئتاي تتنفسان زمنا، يصر على أن تبقى مدينة الألف مئذنة في القلب والعقل.

 كاتب ليبي ورئيس التحرير المساعد لصحيفة الجماهيرية سابقا

Dr.Randa
Dr.Radwa