الجمعة 26 ابريل 2024

المجانين فى جحيم!

مقالات10-8-2021 | 23:18

لم يكن المجانين يوماً فى مصر فى نعيم، مع رفضى واستنكاري لذلك الوصف بالجنون الذى يُقذَف به أى مُرتاد لعيادة الطب النفسي، حيث لم يسلم المريض النفسي فى مصر من تهمة التنمر والتندر عليه بالنكات ومعايرة أسرته أيًا كانت طبقته الاجتماعية ومستوى تعليمه.

ومنذ سنوات ليست بالقليلة، ساقتنى الأقدار لامتهان الصيدلة، سنوات كفيلة بخبرة حياتية وطبية واقتصادية أيضًا، فوجدت اللافت للنظر فى السنوات القليلة الماضية تزايد كبير فى أنواع أدوية الصحة النفسية، بل تباري بين الشركات لطرح أسماء بدائل أدوية لنفس المرض، وتعجبنا كصيادلة من تعدى الطلب عليها حد الطلب الذى كان ذروته على أدوية الأمراض المزمنة كأمراض القلب والسكرى، وهو ما يعد انعكاسًا لازدياد أمراض الاكتئاب والهلوسة والوسواس القهرى.

وسواء كانت تلك الأمراض نتيجة لضغوط حياتية -غير مقصورة على مصر- أو چينات وراثية فإن الإحصائيات فى مصر أعلنت عن وجود مليون مريض اكتئاب وهو ما يشير إلى العدد الذى تم اكتشاف مرضه وتعايش معه وسعى للعلاج عند الطبيب المتخصص ولعله أقل بكثير ممن يجهل المرض ويتعايش معنا أو من اكتشفه وخشى الإفصاح عنه أو من بدأ العلاج ولم يستطع تكملته، واشتدت عليه الحالة أقسى من البدايات.

إذن فالأرقام الفعلية لعدد المرضى يصعب حصرها، ولا نستثنى الأطفال والمراهقين، إذ نتفاجأ كل فترة بحوادث انتحار فى أعمارهم؛ ورغم صدور قانون رعاية المرضى النفسيين شاملًا عقاب كل من ساعد على هروب مريض أو وقف حائلًا أمام إجراءات التفتيش المخول للمجلس القومى للصحة النفسية وعلى الرغم من التوعية الإعلامية - غير المُركزة- لتبسيط خطوات ارتياد عيادات الأطباء النفسيين إلا أن الموروث الشعبى لدى الغالبية العظمى يرفض المسيرة العلاجية النفسية، بل ويُطلق  لفظ "مجنون" على كل مريض واجتمعت الأسر على كونه سُبّة وعار يمس أفرادها، بل ويستعذب أهل المريض  لفط "ممسوس" أو "ملبوس من الجن"، ولدى الغالبية العظمى رغبة محمودة لارتياد أماكن الدجالين والمشعوذين غاضين الطرف عن الهلاوس السمعية والبصرية ومقتنعين كونها صوت من عالم الجن؛ مما ساهم فى ارتفاع نسب النصب والابتزاز المادى والتحرش الجنسى والموت ضربًا من أجل إخراج الجن من الجسم ! ولا نخفى كون كثير من المواد الإعلامية والدعائية تُفرِد العديد من مادة الهواء من أجل تلقى أسئلة خاصة بفتوى لبس الجن والمس الشيطانى إضافة إلى المساحة الدعائية للدجالين على مواقع التواصل الاجتماعى .

وإذا كان الجهل سيد الموقف فى إعاقة تعرف المريض على مرضه أو عار الاعتراف بالمرض النفسى يدفع أسرته للتستر والتكتم فإن الأصعب والمعضلة الحقيقية تكمُن فى من بدأ العلاج ولم يستطع إكماله نظرًا لغلو أدوية الاكتئاب والوسواس القهرى فمن (السيبرالكس للسيروكسات للإسيتا والسيمبالتا ) وحتى أرخصهم (الموودابكس) فإن الدواء يعتبر عالى التكلفة إذا ما قورن بطول فترة العلاج وعدم استطاعة إيقافه إلا تدريجياً، وهو ما يمثل ضغطاً ماديا على الأسرة والمريض ويؤدى لإصابة الأخير بانتكاسة نفسية تؤدى للانتحار، وهو ما وجه أغلب المرضى إلى الإنترنت لتجربة أدوية مؤقتة من باب الراحة أو اللجوء إلى فتوى الأصدقاء والتى تنصْب على المُهدئات والمنومات - إن استطاع المريض التحصل عليها من الصيدلية - وينتج عن تلك التجارب خلل فى السلوك يمكن أن ينتهى بالانتحار أو بجرائم القتل التى شهدناها أخيرًا وتسببت فى إبادة أُسر بأكملها.

مشاكل العلاج النفسى فى مصر لابد لها من وقفة تكاتفية من كل الجهات، بدءًا من التوعية بضرورة المواجهة والعلاج ومحو فكر العار الذى يلحق بالمريض وأهله لما يلاقيه من تنمر مجتمعى، والأهم لابد من  توفير العلاج والمصحات النفسية الحكومية والتى دُشِنت بالفعل ونجحت تجربتها فى جامعة عين شمس، ولاقى المريض معاملة حسنة وأدوية متوفرة ترسيخًا لفكرة الطب النفسى كفرع من فروع الطب المُعترف به عالميًا، بل كفرع له كل الدعم الحكومى والمجتمعى فى البلاد المتحضرة، بينما فى مصر مُهدْر الحق لذا فإن الخطوة التى ننادى بها أسوة بكل المستشفيات التى تعالج مرضى القلب والكبد والسرطان هو نشر منظومة ( العلاج النفسى الخيرى) فى صورة أطباء متبرعين وشركات أدوية تمنح جزءًا من ريع مكسبها للمريض وذلك بعد دراسة الحالة جيدًا وتقييمها ماديًا واجتماعيًا، ولعل تجربة العلاج الخيرى قد أثبتت نجاحها فى مستشفى بهية حيث لا يقل خطورة المرض النفسى عن السرطان .

إن المريض الذى يعانى من الاكتئاب أو الهلوسة أو الوسواس هو الموظف أو المدرس أو حارس العقار أو العامل والحرفى الذى يرتاد بيوتنا، هو من يعانى ويسهم بمرضه فى إيقاف عجلة الإنتاج أو التسبب فى خلق مشاكل فى العمل وينتهى الأمر بجرائم كَثُرت على الساحة، لابد من دعم لهؤلاء؛ دعم مؤسسى وخيرى بتكثيف الدعاية من أجل توفير العلاج لهم والمصحات المجانية الآدمية، ودعم معنوى أهم هو تجريم كل ناطق بلفظ "مجنون" ومحاكمة كل مُتنمر على مريض نفسي لأنها مسئولية أمة تجاه المريض الذى نحسده كونه فى نعيم بينما الأصدق أنه يعيش في جحيم. 

 

شيرين الملوانى

Dr.Randa
Dr.Radwa