السبت 27 ابريل 2024

عائلة افتراضية

مقالات11-6-2021 | 12:47

يعلّمنا السيد المسيح قائلاً: "كذلك كُلُّ شجرةٍ طيّبةٍ تُثمرُ ثماراً طَيّبَة، والشجرةُ الخبيثةُ تُثمِرُ ثِماراً خبيثة" (متى 17:7).

نحن نعيش عصراً مختلفاً تماماً ومتوتراً فى العلاقات الأسرية، ويرجع السبب فى ذلك لجميع وسائل التواصل الاجتماعى الحديثة التى مزّقت شمل الأسرة وهددت كيانها العظيم. ومن المحتمل أن الأجيال القادمة لن تُدرك شيئاً اسمه الأسرة وقيمتها وأهمية وحدتها وترابطها.

 

لقد أصبحت الغالبية العظمى من العائلات خالية من المشاعر والأحاسيس وصلة القرابة الحقيقية، وصارت مواقع "جوجل" و"الفيسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعى مشحونة بالمشاعر والحُب والإعجاب السطحيين، بينما يعيش كل شخص من أفراد الأسرة فى عالمه الخاص، وفى دولةٍ مستقلة منعزلاً عن الغير. نجد كلَّ واحدٍ منهم فى اتصال وتواصل دائمين مع أشخاصٍ غرباء من أنحاء العالم، لا يعرفهم تمام المعرفة ولا يدرى عنهم شيئاً، لأنه لم يتقابل معهم أبداً.

 

كم هو مُرُّ اختفاء اللقاءات العائلية ولا وجود لمناقشات أو حوارات أو سماع شكوى الآخر! لا مكان لكلمات الشكر أو التشجيع أو التهاني، حتى أصبحت المشاعر والأحاسيس جافة، وصار كل فردٍ فى الأسرة غريباً عن الآخر. نجد ربَّ الأسرة الذى كان محور لقاء أفراد العائلة أثناء الطعام والحديث والسمر والضحك ومشاركة ظروف كل شخص؛ تبدّل بجهاز يُسمّى "الراوتر" وموقع "الفيسبوك".

 

كما أن الأم التى تُعتبر مصدر الحنان والحُب والتضحية؛ استبدلوها ب"الواتس آب" و"التويتر" و"الانستجرام". أين هم الأبناء الذين كانوا يرتمون فى حضن والديهم ويشكون لهم، ويستمعون إليهم وينتظرون منهم كلمات التشجيع والتأديب والنصائح؟ للأسف لقد أصبحوا عبيداً لأشخاصٍ مجهولين، ومن المحتمل أن يكونوا مزيفين، حتى وصل الحال بالأبناء إلى أن يتسولوا منهم كلمة إعجاب أو مديح كاذب، ليشعروا بكيانهم وشخصيتهم، ويتبادلون معهم هذا التسول.

 

يعيش الآن أفراد العائلة زمناً يستعطون فيه الحنان والعطف والمواساة من الغريب الذين لا يعرفون عنه شيئاً، بينما يبخلون بكل هذا على أفراد أسرتهم وأصدقائهم الحقيقيين. لقد أصبح الزوج يتابع أخبار أصدقاءه الموجودين فى القائمة عنده، ويتعاطف معهم بالرغم من أنه لا يعرفهم شخصياً، فى حين أن زوجته تمكث بجواره وبالقرب منه فى انتظار كلمة حُب وتشجيع وامتنان وابتسامة. وبالمثل نجد الزوجة تتابع ما ينشره الغير على "الفيسبوك"، وتُعبّر عن إعجابها بكلامهم وصورهم الشخصية مع التعليق المهذّب عليها سواء بالتهانى أو التعازي، فى حين أن زوجها الموجود معها، لم يسمع منها كلمة إعجاب حقيقية، لِمَا يقوم به من تضحيات تجاه الأسرة.

 

وهناك الأب الذى يهتم بجميع المشاكل التى تمر أمام عينيه سواء عن طريق "الفيسبوك" أو "الواتس آب" أو الوسائل الأخرى، يحلل وينصح الجميع ويواسيهم ويؤازرهم، لكنه لا يعلم شيئاً عما يحدث فى منزله، وبالرغم من أنه يخطط ويرسم الطريق الصحيح لكل واحد يمر بأزمة أو ضيقة؛ إلا أنه فى الوقت نفسه لا يهتم بأبنائه والوقوف بجانب من يمر بظروفٍ عصيبة أو أزمة نفسية أو عاطفية. كذلك ها هى الأم غارقة فى مواقع التواصل الاجتماعي، ولا يفوتها أى خبر أو منشور إلا ووضعت بصمتها وتعليقها عليه، فى حين أنها لا تدرك ماذا يدور فى بيتها، وما أخبار أبناءها، وماذا هم فاعلون.

 

نجدها تحزن وتتأثر كثيراً لهذا الشاب الذى يكتب عن مشاكله وأزماته الشخصية، أو تلك الفتاة التى سئمت هذه الحياة، بينما لم تسأل أو تهتم بابنها أو ابنتها عندما يمر أى منهما بلحظاتٍ أو أيام مريرة، ويعيش فى الحزن والوحدة والكآبة. وهناك الابن الغارق فى الإعجاب والامتنان بجميع الأشخاص سواء الحقيقيين أو الوهميين الموجودين فى قائمة أصدقائه بـ"الفيسبوك"، متخذاً إياهم قدوةً له، ويقدّرهم شاكراً إياهم على كل أعمالهم وانجازاتهم، فى حين أنه لم يفعل ذلك مع والديه اللذين يقدّمان له الحُب الحقيقي، ويقومان بشتى التضحيات والحرمان، من أجل أن ينمو ويكبر ويتفوق فى دراسته ليحقق مستقبلاً باهراً. ومن المحتمل أنه أبداً لم ينطق بكلمة شكر لهما، من أجل خدماتهما وتضحياتهما ناكراً الجميل.

 

إذاً ما هو الحل والعلاج لهذا الوضع المؤلم؟ يجب تربية الأبناء على أهمية كيان الأسرة ووحدتها وتعاونها، ويبدأ هذا بالمَثَل الصالح للآباء الذين يعطون الأولوية لأبنائهم وأسرهم قبل كلِّ شيء، حتى تبدأ الصداقة الحقيقية والحُب الصادق والتقدير المتبادل بين جدران البيت، داخل الأسرة الواحدة، ويعيش كل شخص فى عالمه الحقيقى وليس الوهمي. ونختم بالقول المأثور: "يجب أن تبدأ تربية الطفل قبل ولادته بعشرين أو ثلاثين عاماً، وذلك بتربية والديه".  

Dr.Randa
Dr.Radwa