الجمعة 26 ابريل 2024

"انقذوا تاريخنا".. وثائق فى صناديق القمامة (1-2)

مقالات30-4-2021 | 14:26

نبت بلا جذور تذروه الرياح، وبلد بلا تاريخ هى بلد بلا ذاكرة أو هوية، ويبدو أن بعض الجهلاء يتعمدون عن دون قصد تفريغ مصر من هويتها وذاكرتها التاريخية، باعتباره "دشت" أو "ورق مهمل" أو "كراكيب" فى مخازن و"أضابير" المصالح الحكومية، وما أدراك ما المصالح الحكومية والروتين والبيروقراطية فى مصر!

إذا شاءت الأقدار وحملتك أقدامك إلى أى من أسواق مصر الشعبية، المنتشرة فى محافظات الجمهورية، مثل أسواق الثلاثاء أو سوق "السيدة عائشة" و"سوق الجمعة" بالإسكندرية، وغيرها من الأسواق، ستندهش من تاريخ مصر الملقى على الأرصفة، وهو ما قد يتكرر لدى باعة "الروبابيكيا" و"الورق القديم- الدشت" الذى يباع بالكيلو، قبل وصوله إلى شركات الورق لإعادة تدويره.

على تلك الأرصفة ستجد صفحات نادرة ووثائق حية وناطقة لحقبات متعددة من تاريخ مصر، ستفاجأ بأوراق تحمل شعار "الديوان الملكي" وتوقيعات مشاهير مصر، من الزعماء السياسيين، وقرارات تخص غالبية وزارات مصر حتى حقبة ستينيات القرن الماضي، فى "أصول" تحمل توقيعات الوزراء أنفسهم، وربما قرارات تحمل عبارة "سرى للغاية" و"محظور من النشر".

قبل نحو العام أطلق الباحث والمؤرخ، مكرم سلامة- أحد أهم وأشهر جامعى الوثائق فى مصر والعالم العربي- صرخة عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي، بأنه بصدد بيع كل ما لديه من وثائق وأرشيفات، استطاع جمعها طوال قرابة نصف قرن، بعد أن فاض به الكيل من البيروقراطية، والروتين الحكومي، والإهمال، فلا أحد يهتم بما يعرضه الرجل من إهداءات نادرة لبعض جهات الدولة، أو يقدر ذلك، ويقابل دائما عرضه بنوع من الغطرسة والصلف والتعالى، رغم تحذيراته بأن تاريخ مصر من الوثائق والأرشيفات النادرة، مهدد بالفقد والدمار والسرقة، مثلما حدث فى تاريخ التليفزيون المصرى!

رحلة امتدت نحو نصف قرن، قضاها «العم مكرم» فى توثيق «سينماتيك مصر» بالوثائق والأرشيفات، حفاظاً عليها من الفقد من الذاكرة والتاريخ، حفاظاً على هوية وتاريخ وطن، كانت يوما صناعة السينما ثانى مصدر لدخله القومى، بعد «القطن».

لك أن تتخيل أن ورثة كبار نجوم الفن فى مصر، أهملوا تاريخ آبائهم، وبفضل "مكرم" استطاع إنقاذ مئات عقود الأفلام لأهم نجوم الشاشة ومخرجى السينما المصرية، على رأسهم سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، عمر الشريف وأحمد رمزى وفريد شوقى وهند رستم، والمخرجون صلاح أبوسيف وحسن الإمام وغيرهم، إضافة لمئات النيجاتيف النادر الذى يحوى «making» خلف الكواليس لتصوير تلك الأفلام، فى مشاهدات نادرة.

وإنه عثر بالمصادفة لدى أحد باعة الخردة بالقاهرة، على أرشيف المخرج المصرى -الإيطالى اليهودى الاصل- توجو مزراحى، مخرج فيلم «سلامة» لكوكب الغناء العربى أم كلثوم، وجميع أفلام الفنان الكوميدى على الكسار.

كذلك عثر أيضا على كنز ثمين من وثائق غرفة صناعة السينما المصرية، بينها خطاب صادر عن إدارة الرقابة على الأفلام والمصنفات الفنية فى مصلحة الفنون، وكانت تتبع وقتها وزارة الإرشاد القومى، يرجع تاريخه إلى 28 فبراير 1959، موجه إلى رئيس غرفة صناعة السينما المصرية، بضرورة التنبيه على المنتجين والموزعين لطمس أو حذف صور الملك السابق فاروق من الأفلام المصرية السابقة على 23 يوليو 1952، وأرسلته غرفة صناعة السينما وقتها إلى منتجى الأفلام وموزعيها.

وقرار مجلس نقابة المهن السينمائية، فى جلسته المنعقدة فى 23 نوفمبر 1956، عقب «العدوان الثلاثي» على مصر نفس العام، باستبعاد رعايا الدول المعادية (فرنسا وبريطانيا وإسرائيل) من جداول النقابة، وهو القرار الذى رفعته نقابة المهن السينمائية إلى غرفة صناعة السينما، ووزعته على شركات الإنتاج وقتها وطالبتهم بعدم التعاون مع هؤلاء الفنانين.

خلاف مكرم سلامة، عثر الباحث والمحام الشاب، غريب الشبراوي، منذ عدة سنوات، لدى أحد باعة "الروبابكيا" بالقاهرة، على وثائق نادرة تخص احدى الجاليات الاجنبية فى مصر، بينها شهادات ميلاد وشهادات دراسية ومجموعة من البطاقات الشخصية وجوازات السفر، تعود لحقبة بداية القرن الماضى وحتى بداية السبعينيات، ولا أحد يعرف كيف وصلت هذه الاوراق والوثائق التاريخية لباعة الأوراق القديمة والروبابكيا، رغم أنها تحمل أختام إحدى الوزرات بالدولة، ويفترض أنها ضمن أرشيفها، وإن كان أغلب الظن أنه تم التخلص منها باعتبارها أوراق مهملة وعديمة القيمة، دون النظر لقيمتها التاريخية!

فى مكتب الباحث رأفت الخمساوي، بمدينة الإسكندرية، توجد أرشيفات كاملة لوثائق نادرة تعود للحقبة الملكية، تحمل توقيعات عدداً من مشاهير السياسة فى مصر، بينهم الزعيمان سعد زغلول ومصطفى النحاس، عثر عليها "الخمساوي" مصادفة فى "سوق الجمعة" ولدى تجار الورق القديم بحى "العطارين" العريق، واستطاع ببراعة ترميم الأجزاء التالفة من تلك الوثائق، وإعادتها لحالتها الطبيعية، فى جهد يحسب له.

لا أحد على وجه التحديد يعرف كيف وصلت تلك "الوثائق النادرة" لأرصفة الأسواق الشعبية، أو تجار "الروبابكيا" و"الورق القديم"، ولكن المؤكد أنها نتيجة إهمال العديد من الجهات الحكومية، التى مازالت تجهل قيمة "الوثيقة" وما تحمله من تاريخ هذا الوطن، وما تمثله من صورة نابضة وحية للعديد من الحقبات التاريخية الثرية، التى تعجز الأقلام مهما كانت براعتها عن وصفها، فالوثيقة التاريخية كانت ولاتزال شاهد عيان على ما مرت به مصر من أحداث، وعلى الجميع الحفاظ عليها من صناديق القمامة و"مفارم" شركات الورق وتجار الروبابكيا.

Dr.Randa
Dr.Radwa