السبت 20 ابريل 2024

"دار الهلال" تحاور المفكر المغربي خالد التوزاني حول حقيقة التصوف والنزعة السياسية للسلفية

المفكر المغربي خالد التوزاني

عرب وعالم25-7-2021 | 12:17

محمود أبو بكر

في اطار التبادل الثقافي والمعرفي بين مصر ومفكري الوطن العربي أجرت دار الهلال حوارا مع المفكر المغربي الدكتور خالد التوزاني، رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي (مساق)، الذي له مؤلفات عديدة في التصوف والأدب والنقد والجماليات، وهو عضو مؤسس لعدد من المراكز العلمية والبحثية، وعضو لجان التحكيم والتدقيق العلمي في عدد من المجلات العربية الثقافية والجامعية ودور النشر العربية.. في هذا الحوار يجيب عن أسئلة مؤسسة دار الهلال العريقة، بشكل صريح ومباشر، وبجرأة المفكر والعالم الذي يملك مشروعاً علمياً رائداً في التقريب بين الثقافات وفي تصحيح الكثير من المفاهيم حول الإسلام والحوار والتسامح وغيرها من القضايا التي يتناولها هذا الحوار:

هل من الممكن أن تحدثنا عن أبرز الرحلات العلمية الهامة في حياتكم؟

    بداية أشكر مؤسسة دار الهلال في شخص الكاتب الصحفي محمود محمد أبو بكر، والتحية لكل القراء الأعزاء، وأقول بخصوص رحلاتي العلمية، يمكن أن أقسّمها إلى نوعين اثنين: رحلات محسوسة في عالم الحياة، وأخرى معنوية في عالم الكتب والقراءات، الأولى تجسّدت في الدراسة والعبور من كافة المراحل التعليمية؛ رحلة تربية وتعليم وتدريب، توجّتْ بحصولي على شهادة الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية، واستطعتُ الجمع بين أكثر من تخصّص، مما أثّر في رؤيتي للأشياء والواقع، وساعدني على فهم الكثير من القضايا، خاصة وأني في البداية تخصّصتُ في العلوم التجريبية، وبعدها تخصّصت في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والدراسات الإسلامية، ثم علوم التربية والبيداغوجيا والديداكتيك والأندغالوجيا، وغيرها من العلوم التي جعلتني أتعمّق في فهم الإنسان، وأفادني ذلك في تحليل النصوص وفهم أكثر الظواهر الإنسانية تعقيداً ومنها ظاهرة التطرف والإرهاب وأنماط التدين والأديان وفلسفة اللغة والأخلاق.. فكانت لي في تلك المجالات كتابات عديدة.

الفكر الصوفي هو التدين والتقوى والزهد والورع فهل تحدثنا عن جوهر التصوف وحقيقته وأهميته؟

يكمن جوهر التصوف في صفاء الروح الذي يمثل ثمرة نقاء القلب وسلامته، ولا يتحقّق ذلك إلا بأنواع مجاهدات وألوان المكابدات، التي تُلزِمُ النفس الإنسانية طريق الحق، وإبعادها عن سُبل الباطل بكل أشكاله وتجلياته، وتكمن أهمية التصوف في آثاره على الفرد والمجتمع، حيث يشكل التصوف طموحاً نحو الكمال الإنساني، في كل شأن من شؤون الحياة، أي الإحسان والإتقان المستمر في أداء الأعمال الظاهرة والباطنة، الخفيّة والجلية، وبتعبير آخر إن التصوف هو روح العمل الجاد والإخلاص في العطاء، والفناء في البذل الذي يحقّق للمرء البقاء، أي الأثر الذي لا يزول، ويظل في الأرض نافعاً للناس، فيؤجر صاحِبُه مرتين؛ الأولى في الدنيا والثانية في الأخرى حيث الجزاء الأوفى في الحياة الباقية.

 ما الفرق بين التصوف والتشيع؟

    التصوف مختلف عن التشيع، ومختلف عن باقي أشكال التفلسف في الدين، أو علم الكلام والعقائد والملل والنِّحل والمذاهب.. التصوف كما سلف القول يمثل صفاء الروح وثمرة نقاء القلب، ويظهر أثره في السلوك، أي الأخلاق والمعاملات، فقد قيل: التصوف خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في التصوف.    

أما التشيّع فمعروف ومشهور بوصفه طائفة دينية تنتشر في إيران والعراق، لها مواقفها ومعتقداتها، والتشيع محل خلاف بين العلماء والباحثين بين من يراه بدعة ومن يراه حقيقة، لكن الملاحظ هو إمكان وجود النزوع نحو التصوف في سائر المذاهب والتيارات الدينية والفلسفية، بل وحتى خارج دائرة الإسلام أيضاً، كلّ إحسان ومحاولة لتزكية النفس يمكن عدّها تصوفاً، وبذلك قد نعثر على التصوف في التشيع، كما يمكن أن نعثر عليه في سائر التيارات والاتجاهات، إنه فن علاج القلوب، أو محو القلوب من الأغيار، وملئها بالمحبوب وهو الخالق الرحيم بخلقه.

  هل يفقه اهل التصوف في هذا العصر جوهر التصوف ؟

  لا يخلو عصرٌ من أهل الحق الذين يحاربون الباطل ويصارعون قوى الشر، وحقائق الوجود قد تلتبس ولا تستبين إلا لذوي الأفهام الدقيقة والقلوب النقية الخالية من أمراض الحقد والحسد والبغضاء والأنانية والكبر.. ولأن مجال التصوف يرتبط بتذوق حقائق الوجود وأذواق الإيمان وأشواق السير في طريق الله، فإن قوى الظلام من شياطين الإنس والجن، لا تترك أهل هذا السبيل ينعمون في صفائهم، فتشوّش عليهم طريقهم وتفتنهم وتحاول صرفهم عن المراد، ليكونوا مريدين للجاه والسلطة والمال.. ولا يبغون وجه الله، وذلك مقابل التيار الآخر الذي يريد وجه الله، وقد جمعت هذين التيارين، الآية الكريمة: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا".

  ولذلك لا يلتقي التصوف إلا مع إرادة وجه الله، وقد يملك الإنسان زخرف الحياة الدنيا ولا تصرفه عن وجهة الله التي يريد، ومَنْ كانت هذه وِجهته فقد مَلَكَ كل شيء، ولو لم يملك أي شيء من زخرف الحياة الدنيا، فالتصوف في بعض معانيه: أن تملك الدنيا ولا تملكك، ومعنى ذلك أنَّ التصوف لا يعني الفقر، بل يعني أن تعرف طريق الحق ولا يصرفك شيء عن ذلك، ولا يشغلك شاغل، ولو كان المرء في سوق أو مصنع أو تجارة، فالجسد في الحانوت والروح في الملكوت، تسبحُ في عالم آخر مع مَنْ تُحب ومَن إليه تشتاق وتتوق، فيعيش المتصوف في مقام القرب وهو المراقبة أو المشاهدة، أي التصرّف في شؤون الحياة، وكأنه يرى الحق تبارك وتعالى، أي أنه يُحقّق مقام الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك. وهو مقام قد يُطلق عليه الكشف، إذ يصبح المرء منسجماً مع الكون في تسبيح الخالق وصلة القرب به، فيكون مؤهّلا للفيض وتلقي المواهب اللدنية.

الصوفية هم أهل عفة وزهد وتقوي وقرب وود مع الله لماذا شنت الحروب عليهم وشوهت صورتهم منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، ما الفرق بين الصوفية والفقهاء والسلفية؟

    السلفية تيار ديني حديث نسبياً، إذ لم يكن له وجود في العصور السابقة، لأن المجتمع كان يرى الدين متجسّداً في تعاليم الشريعة السمحة، وكل خروج عن أحكام الشريعة يصبح مروقاً من الدين، وانحرافاً واضحاً، يستنكره الجميع، فقد كان الفقه أي العلم بأحكام الشريعة علماً شائعاً بين الناس وضرورة في فهم الدين، واعتُبِر الفقه عماد التدين، فالله يُعبَدُ بالعلم ولا يُعبد بالجهل، وعالمٌ عاملٌ أشدّ على الشيطان من ألف عابد.

  لقد تم النظر إلى التصوف باعتباره مجال الأخلاق والرقائق والأذواق والأشواق، فكان بذلك روح الدين، أي أثر العبادات في سلوك الناس ومعاملاتهم، ولم تقع الخصومة بين التصوف والفقه إلا مع ظهور الانحرافات والبدع في التصوف، أي الانغماس في العبادات دون ملاحظة الأثر في المعاملات، وأيضاً ميل الناس إلى التزام الأحكام والتفريض في قيم الإحسان والفضل والتسامح، أي الفقه ولا شيء آخر، فحدَث الانفصال بين الفقه والتصوف، مما جعل المتدين أعرجاً في تدينه، فقه بلا أخلاق، وتصوف بلا فقه، فقال بعض العلماء: "مَن تفقَّه ولم يتصوف فقد تفسّق، ومَن تَصوّفَ ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق"، حيث المطلوب هو الجمع بين الفقه والتصوف.

  هل يحمل التيار السلفي نزعة سياسية؟

في عصرنا الحالي ظهر التيار السلفي، بوصفه اتجاهاً دينياً يحمل بذور نزعة سياسية، يروم تقديم فهم للدين على أصول السلف والعودة إلى منابع الإيمان، وذلك بسبب ما لوحظ من فتور في التدين وابتعاد عن روح الشريعة وأحكامها، لكن وقعت السلفية في تحديات كبيرة، وعلى رأسها صعوبة تنزيل كثير من الأحكام في واقع معقد، تتجاذبه العديد من التيارات الأخرى، لتتحول السلفية من دعوة للنهضة، إلى نداء سياسي، فدخلت في المواجهة مع السلطة السياسية، لينتهي الأمر بفشل توجّهها، أو انحساره، أو تعديله، ومن الملاحظ في بدايات السلفية هو صراعها مع العديد من الأنماط الفكرية والسلوكية التي وُجِدت في الواقع العربي، تاريخياً وحاضراً، وعلى رأسها التصوف.

  كيف عبرت المواجهة بين السلفية والصوفية عن الرؤية الدينية؟

لقد عبّرت "المواجهة" بين السلفية والتصوف عن تباين في الرؤية الدينية؛ بين رؤية ترى في النصوص التأسيسية كالقرآن والسنة المرجع الأسمى، وبين رؤية صوفية ترى في الإلهام مصدراً للمعرفة والفهم، ويبدو أنه صراع وهمي، لا أساس له من الناحية العلمية، إذ السلفية بمفهومها الذي جاءت به، ما هي إلا محاولة لتجديد فقه أو إحياء ما اندرس منه، وتوجيهه نحو الواقع ليحكم ويسود، ولذلك اعتبره الكثيرون تياراً سياسياً، أما التصوف فلم يكن إلا تربية وتزكية للنفس، ولكن بعض شيوخ الصوفية عندما استكثروا من المريدين وصارت لهم سلطة روحية واسعة، دفع البعض إلى اتهامهم بالعمل السياسي، على غرار اتهام السلفية بالتوجه السياسي أيضاً، فكانت المعركة بين السلفية والتصوف، غير قائمة على أي أسس علمية ومعرفية، لأنها معاً يمثلان عملة واحدة؛ فالسلفية إذا كانت دعوة للعودة إلى منابع الإيمان على فهم سلف الأمة في غابر الأزمان.

فإن التصوف أيضاً دعوة للعودة إلى منابع الإيمان، يقدّم نفسه بوصفه مكوناً من مكونات الدين، متمثّلا في مقام الإحسان، ولذلك، في تقديري، لا يوجد صراع بين السلفية والتصوف، وإنَّ محاولات البعض إدخالهما عنوة في الصراع أو إظهارهما في مواجهة، ما هو إلا تسييسٌ للدين، ومحاولة لاختطاف طرف ورهن الطرف الآخر، توظيف واحدٍ لضرب الثاني، وفي فقدان أحد الطرفين، ضياع للتوازن الإنساني، فالإنسان جسم وروح، وإذا كان الفقه يضبط تصرفات الجسد، فإن التصوف يربي الروح ويقوّم اعوجاج القلب.

  

التصوف بوصفه تجربة وجدانية وذوقية فردية، يصعب على صاحبها وصف مشاعره وأذواقه، فيلج مقام الخرق في التعبير اللغوي عن تجربته مما يفتح الكلام الصوفي على نوع من الشطح اللغوي، ويغدو الكلام من نوع آخر: إشارات ورموز وربما ألغاز تحتاج في فهمها إلى رصيدٍ من الممارسة الصوفية ونصيب من هذه التجربة الروحية البالغة التعقيد، وبتعبير آخر إن الكلام عن التصوف لا يُحكى بالعبارات المألوفة على شكل لغة يومية عادية، وإنما يُطوى ويُغيَّبُ في فنون العبارة كالشعر، أو فنون الإشارة كحساب الجمل والجفر، ليلج التصوف مجال الصفوة أو الخصوص ويبتعد عن مجال العوام، فنتحدث عن تصوف العلماء مقابل تصوف العوام، ليصبح التصوف أنواعاً وأنماطاً، ولذلك لا بد قبل أي خوض في موضوع التصوف توضيح المعنى المقصود بدقة متناهية.

  هل حادت النقابات الشريفية عن مسارها؟

والأمر نفسه ينطبق على النقابات الشريفة التي ينبغي أن تبقى شريفة، وهي أيضاً أنواع وأنماط، ينبغي أن تنأى بنفسها عن الشبهات، وأن لا تنجرف وراء صراعات تستنزف طاقتها وتشوّه صورتها فتهدم رصيدها الرمزي من الاحترام والتقدير في عيون الآخرين الذين ينظرون لآل البيت نظرة توقير واحترام وإجلال، لا ينبغي انتهاكها بألوان التدليس والغش والرياء والسمعة أو التكبر والاستعلاء على خلق الله أو طلب معاملة خاصة دون أي سند أخلاقي وقانوني.