الثلاثاء 16 ابريل 2024

ذكريات وأسرار أنور السادات.. مع الفجر والناس نيام

كنوزنا25-12-2020 | 13:27

مفاجأة

أحدا لم يكن يتوقع شيئاً عندما نام ليلته في نهاية اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو عام 1952، فلما أقبل الصباح كان الناس في شبه ذهول.. فقد توالت الأحداث منذ الفجر علي صورة لم يألفها هذا الشعب، ولا كانت تستطيع أن تطوف بخياله، بعد أن تاهت منه أحلامه وآماله، في ظلمة الأيام وسواد الليالي، طيلة أشهر ستة ثقيلة مرة.

رأي كفاحه المسلح من أجل حريته، ينتكس فجأة يوم 26 يناير من ذلك العام.. ورأي مدينته العزيزة «القاهرة» تشتعل بالنار التي انطفأت في اليوم نفسه من معسكرات أعدائه.. ورأي أبناءه الذين ذهبوا يذودون عن شرفه وحريته، يعودون إلي المدينة مكبلين بالاغلال، ليقضوا أيامهم خلف أسوار المعتقل.. ثم رأي نفسه، وقد أصبح في نظر الحاكمين خطرا داهماً علي أرضه، ووطنه ومدينته، فألزموه البيت كلما جاء المساء، عقاباً له علي انطلاق آماله والزاما له بالتفكير عن خطاياه.

ورأي الاشاعات والمخاوف تملأ الجو من حوله.. حلقات الخيانة والدسائس تحيط بحياته، وخمساً من الوزارات تتتابع علي مقاعد حكمه العرفي، لم يعرف لماذا أتت، ولا لماذا ذهبت، ولكنه لعنها جميعاً في سره وفي علنه.. وما كان يملك غير هذه اللعنات، وقد سلب القدرة علي العمل، وسدت في وجهه منافذ الآمال.

وفجأة، وبدون أية مقدمات - في نظر الجمهور - تحرك الجيش وتوالت الأحداث.

وفي صباح 23 يوليو، كان الناس بين مصدق ومكذب.. كانت الفرحة تشملهم، ولكنها فرحة تشوبها المخاوف، وتنتابها الظنون والتكهنات لأن البيان الذي طلع عليهم لم يشف نفوسهم، ولم يضئ أمامهم كل المصابيح.

دور البطل

ولم يضيع السياسيون وقتا بعد ذلك..

فمنذ الصباح في 27 يوليو، بدأت كل هيئة سياسية.. بل بدأ كل سياسي في هذا البلد، يعد نفسه لمعركة جديدة يحلم فيها بدور البطل.

أين الحقيقة؟

كان الناس يريدون أن يعرفوا من أمر هذه الثورة.. ومن أمر الرجال الذين يقودونها، كل شيء.

أسئلة كثيرة كانت تدور برءوس المصريين جميعاً، ولم يكونوا يجدون لها جواباً منا.. ولكن.. كانت الإشاعات تجيب!.

وانطلقت أول إشاعة تقول أن هذه الثورة، ثورة إخوانية يقودها ويوجهها الإخوان المسلمون..!

وكانت هذه الإشاعة تطوف بالناس، وبين يديها دليل يؤكد صدقها.. فقد كان أول إجراء اتخذته الثورة كجزء من برنامجها الضخم إزالة آثار الماضي البغيض، ومحاسبة المسئولين عنه بالحق والعدل، هو الأمر الذي صدر بإعادة التحقيق في قضية مقتل المرحوم حسن البنا، مرشد الإخوان المسلمين.

ولم يقل الناس أن هذا مصري قد قتل بليل، وأحاطت بالتحقيق في مقتله، ظروف مريبة، واتخذت فيه اجراءات شاذة.. ثم طوي علي سر دفين، وقاتل مجهول.

في هذه الجريمة المنكرة، وأن يؤخذ جناتها بالقصاص..

ولكن قالوا: إن خلف الثورة جماعة الإخوان المسلمين..!

وبدأ بعد ذلك تساؤل كثير.

إن كانت هناك صلة بين هذه الثورة، وبين الإخوان المسلمين.. فمتي بدأت!.

وإلي أي مدي وصلت؟.

وماذا كانت أهدافها؟.

وماذا أنتجت؟

وهل استمرت، أم انقطعت؟.

وفي جملة واحدة، ما هي قصة الثورة مع الإخوان المسلمين؟

سؤال واحد، يعود بالذاكرة إلي إثني عشر عاماً قبل ظهور هذه الثورة.. إلي عام 1940 عندما بدأت قصتنا مع الإخوان.

وهذه القصة لا يعرفها المصريون، ولا يعرفها جمهرة الإخوان، ولا يعرفها العدد الأكبر من رجال قيادة الإخوان.. وكل ما يعرفه المصريون هو ماذاع من إشاعات بعد ذلك بأيام.

ومع ذلك.. فليس هذا هو كل ما لابس هذه الثورة من مظاهر، ومن إشاعات.. ومن محاولات.

الثورة والوفد

فقد كان هناك الوفد أيضاً.

وللوفد أيضاً قصة ممع هذه الثورة، قصة لا يعرفها المصريون.. ولا يعرفها أيضاً عدد كبير من رجال الوفد أنفسهم.

فالناس لا يعرفون أن اتصالنا بالوفد قد بدأ قبل ظهور الثورة بزمن طويل.. ولا يعرفون أننا في وقت من الأوقات قد وضعنا خطتنا علي أساس أن نأتي بالوفد ونفرضه فرضا علي فاروق، كشرارة أولي للثورة، ثم نكمل نحن تنفيذ الخطة.

لا يعرف الناس شيئاً من كل هذا، ولا يعرفون كيف تخاذل الوفد عن القيام بدوره في هذه الخطة، ولا لماذا.

ولكن هذا كله يعرفه بعض زعماء الوفد.. الذين حاولوا بعد يوم 27 يوليو أن يفرضوا وصايتهم علي الثورة.. وان يمهدوا لهذه الوصاية بسيل كبير من الاشاعات والروايات والمظاهر.. وأن يحاولوا خلق أمر واقع يحيطون به الثورة ويلبسونها ثوبا لم تفكر فيه يوما من الأيام!

وقد بدأ هذا بمجرد عودة مصطفي النحاس وفؤاد سراج الدين من الخارج في الأسبوع الذي تلا طرد فاروق.

عاد الرجلان.. فعاد النشاط إلى أقصاه في صفوف الوفد..

الاجتماعات المتتالية تعقد.

ومندوبو الصحف يسهرون الليالي في دار الزعامة..

وأعمدة الصحف تمتلئ كل يوم بالأخبار والأسرار والتكهنات والقرارات الخطيرة التي يتخذها رجال الوفد..!

وعاد الشباب الوفدي فورا.. يملأ ردهات النادي السعدي، وعاد الهمس، وعادت الهتافات، وسارت الاشاعات.. تشكل الوزارة، وتملأ المناصب الهامة في الدولة،، وتتكهن بالمستقبل وتحدد تواريخ الأحداث الخطيرة المقبلة..!

وسمع الناس أيضاً هذه الاشاعات.. ثم لم يسأل أحد منهم نفسه سؤالاً واحداً، يستطيع أن يقضي عليها.

لماذا عاد النحاس وسراج الدين من مصيفهما بأوربا عقب الثورة مباشرة!!

أيمكن أن يكون الزعيمان الكبيران قد ارتحلا إلي أوربا ابان أعنف الأزمات السياسية  التي وقعت في تاريخ مصر.. وخلال أحلك الليالي التي مرت بشعب مصر، منذ احترقت القاهرة، واضطربت كل موازين الحكم فيها، أيمكن أن يكون الرجلان قد سافرا إلي أوربا ليفكرا هناك بهدوء في أمر هذا الشعب الذي يزعمان زعامته، وهذا البلد الذي حطمه الخراب والطغيان؟!

لماذا يتركان البلاد في محنتها، فلا يعودان إليها إلا يوم يترامي إلي أسماعهما حديث الثورة، فينبه فيهما شهوة جائعة إلى الغنيمة، وقد ظنا أنها أصبحت سهلة بلا حراس؟!

ولكن سؤالاً كهذا لم يطف بخاطر أحد ممن سمعوا إشاعات الوفد تنطلق كل يوم.

وبينما كان الناس في دوامة الاشاعات كان سراج الدين يعد خطة الاستيلاء علي الغنيمة..!

خطة الوفد

وكانت خطة الوفد فذة في نوعها.

فقد بلغ النشاط الوفدي أقصاه، وملأت الإشاعات جميع الآذان.. اشاعات أن الوفد قد سيطر علي الموقف تماما، وأن قادة الثورة قد أيقنوا أنه لا سبيل لهم إلي تحقيق أي هدف من أهداف الثورة، إلا إذا احتضن الوفد هذه الأهداف.

وكانت عودة النحاس وسراج الدين من الخارج عقب الثورة مباشرة، والزيارة التي قام بها النحاس إلي القيادة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، من الدعائم القوية التي استندت إليها هذه الاشاعات لتصل إلي الناس في صورة الحقائق الثابتة المقررة.

ولم يبق أمام الوفد إلا أن يقنعنا نحن أيضاً بصحة هذه الاشاعات التي أطلقها.. عنا!

كان الوفد في هذه المرة يسير وفق خطة علي درجة طيبة من الأحكام.. فكان ما نسمعه من فؤاد سراج الدين هو نفس ما نسمعه من الشباب الوفدي جميعا علي اختلاف ثقافاتهم وألوانهم.

وكان الهدف من هذا النشاط والهتافات والإشاعات والتحركات، هو اشعار البلد أولا بأن الوفد يضع خطة المستقبل بوصفه حزب الأغلبية الذي يمثل الشعب، وبوصفه القوة الحقيقية التي تستطيع هذه الثورة أن ترتكز عليها، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً بدونها.

كان الوفد يريد أن يجعل من هذه الدعوى أمراً واقعاً، لكي يتسلل الينا بعد ذلك، ويواجهنا بهذا الأمر الواقع.. إن القاعدة الشعبية الوحيدة في البلاد، هي قاعدة الوفد، واننا لا نستطيع أن نعمل دون الارتكاز عليها!.

وفي صباح يوم من أيام أغسطس 1952، أي بعد الثورة بأسبوعين تقريباً، أيقظوني من نومي في منزلي لكي أقابل ضيفين يطلبان مقابلتي لأمر خطير.

فدخلت غرفة الاستقبال، فوجدت زميلين من زملاء المعتقل..

وكان طبيعيا أن نتذاكر شيئاً عن الماضي الذي جمعنا في معتقل واحد في عهود الظلم والإرهاب.

ولكنني أحسست أنهما قد أعدا حديثهما، ورتباه ونمقاه، بحيث يلقي كل منهما حلقة من حلقات الحديث فيتبعها زميله بحلقة أخرى، تكملها في نفس الاتجاه وفي صورة الكلام العرضي الذي يجلب بعضه بعضا دون تحضير!

ودخلا في الموضوع..

قال أحدهما:

- أنت تعلم طبعا تمام العلم أن هذه الثورة ليست ثورة الجيش، وإنما هي ثورة الشعب.. وكل مصري حريص أشد الحرص علي أن تصل هذه الثورة إلي أهدافها كاملة، فنحن بهذا مسئولون جميعاً مسئولية متساوية نحو الثورة.

أمنت طبعا علي هذا الدخول.. فاستطرد الضيف الوفدي، نحو هدفه:

- أن الكتلة الشعبية لا تتمثل في أية هيئة أو حزب في هذا البلد، إلا في الوفد.. والوفد هو التنظيم الوحيد الذي يستطيع أن يسند هذه الثورة لأنه هو الذي مهد لها بل هو الذي بدأها فعلا.

وأوشك زميله أن يتم الكلام لولا إني استوقفته لحظة أسأله فيها: كيف بدأ الوفد هذه الثورة، وكيف مهد لها..؟ فقد تكون معلوماتي عن قصة الثورة وقصة الوفد معلومات ناقصة.

قال الضيف الثاني:

- ألا تعلم أن هجوم الوفد في الفترة الأخيرة علي فاروق هو الذي شجع الجيش علي أن يضرب ضربته..؟ وألا تعلم أنه كان متصلا بكم فعلا في الجيش؟!

وقبل أن أحاول الإجابة.. سألني ضيفي في حماس:

- كيف تولون علي ماهر الحكم، وهو الرجل الذي لا يستند إلي الشعب ولا إلي أي حزب من الأحزاب؟!

وأكمل صديقه قائلاً:

- إن علي ماهر رجل عاش طول حياته يدبر المؤامرات، وإنه في سبيل أحقاده وكراهيته لبقية الأحزاب سينحرف بالسلطة وسيستغل هذه الثورة لنفسه، ولن يظفر بإيمان الشعب به في يوم من الأيام.

وكنت ساكتاً، لأعطي الفرصة للضيفين العزيزين.. فأكمل الثاني:

- إن هذه الثورة لن تستطيع أن تسير أو تحقق شيئاً ما لم تستند إلي أكبر قوة سياسية في البلد وهي الوفد.. ثم إن سراج الدين علي أتم الاستعداد للتعاون معكم في كل شيء.. وأنت تعرف أنه كان - وهو وزير للداخلية - يوعز لنا نحن الشباب الوفدي بالمظاهرات التي تهتف بسقوط فاروق، في نفس الوقت الذي كان فيه يتظاهر بالولاء للملك.. وتعرف أيضاً أنه هو الذي كان يقود معركة القنال لولا أن الملك حرق القاهرة، لأنه تبين ما يدبره له سراج الدين..!

ولم أكن أنا أسمع هذا الكلام لأول مرة، فقد كان هذا الكلام شائعا في البلاد وكان بعض الناس قد بدا يؤمن به فعلا .. ولكني كنت انتظر النتيجة التي يريد الضيفين ان يصلا إليها ..

ولم تطل الجلسة أكثر من ساعة ونصف .. ولم تزد طلبات الصديقين عن طلب واحد فقط، هو أن تتم مقابلة بيني وبين فؤاد سراج الدين كي نتفاهم.

ولم يكن هناك ما يمنع من هذه المقابلة.. ووقد تمت فعلا.. فقابلت سراج الدين، وقابل هو غيري أيضاً من الزملاء.

وكانت مقابلات مثيرة.. رأينا فيها أموراً كثيرة علي حقيقتها، وفهمنا ما أراده الوفد بنا وبالثورة وبالبلاد كلها.

وأكملنا بها قصة الوفد..

ولكن الناس لا يزالون يجهلونها.. بل يجهلها الوفديون أنفسهم..

وكل الذي عرفه الناس في فجر هذه الثورة، هو ما أشاعه الوفديون من أنهم «أسياد الموقف، شاءت الثورة أم لم تشأ!» وما دعموا به اشاعاتهم من قصص كثيرة وروايات محبوكة عن قيام الثورة.