الأربعاء 24 ابريل 2024

أكتوبر 73.. انتصار عسكري دبلوماسي قانوني


دكتور ايمن مراد

مقالات23-10-2021 | 15:12

د. أيمن مراد

 48 عامًا مرت على نصر أكتوبر، ولا تزال هذه الحرب تمثل مصدر إلهام استراتيجي وعسكري للعالم أجمع. فحرب أكتوبر كانت بمثابة زلزالا ليس للعدو الإسرائيلي فقط بل للعالم أجمع.

حرب أسقطت الكثير من النظريات التي ظلت راسخة لسنوات طويلة، وغيَّرت موازين القوى في المنطقة.

حرب تجلى فيها عبقرية المقاتل المصري. فتحية واجبة لكل من شارك في هذه المعركة الأبية من قادة وضباط وجنود ومنهم من لا زال مستمراً في رحلة العطاء ومنهم من انتقل إلى جوار ربه مع الصديقين والشهداء، وتحية واجبة لهذا الشعب الأبي العظيم.

وبنهاية العمليات العسكرية لحرب أكتوبر 1973، بدأت معركة أخرى على المستويين الدبلوماسي والقانوني أظهرت عبقرية المفاوض والحقوقي المصري، والتي انتهت باسترداد آخر حبة رمال من سيناء الحبيبة ورفع العلم المصري على طابا في 19 مارس 1989.

مشروعية حرب أكتوبر 1973

نظراً للسياسة التوسعية التي انتهجها الكيان الصهيوني التي بلغت ذروتها إثر الهزيمة العربية إبان عام 1967 وما استتبعه من احتلال لشبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان والبقية المتبقية من فلسطين ذاتها، سعت جمهورية مصر العربية سعياً حثيثاً لإعمال قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في 22 نوفمبر 1967 في شأن انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة والتسوية السلمية للنزاع العربي الإسرائيلي.

ولقد رفضت إسرائيل إعمال مقتضيات هذا القرار، فقامت القوات المسلحة المصرية والسورية في السادس من أكتوبر 1973، بإعلان حرب التحرير العربية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي استناداً إلى رخصة الدفاع الشرعي التي كفلتها صراحة المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يضفي على حرب السادس من أكتوبر 1973 المشروعية القانونية طبقاً للقانون الدولي العام. وقد تكمنت القوات المسلحة المصرية الباسلة آنذاك من الحاق الهزيمة بالعدو على سائر جبهات القتال إلى الحد الذي استغاثت معه القيادتان السياسية والعسكرية الإسرائيلية بالولايات المتحدة بغية مواجهة المد الجارف العربي. فأصدر مجلس الأمن في 22 أكتوبر قراره رقم 338 في شأن وقف إطلاق النار والتهيئة لإعمال قرار 242 بين الأطراف المتحاربة. إلا أن وقف إطلاق النار لم يتحقق عملاً إلا في 28 من أكتوبر ذاته نظراً لإمعان إسرائيل في خرق مقتضياته.

توصلت الحكومتان المصرية والإسرائيلية إلى إبرام اتفاق الست نقاط بغية ضمان عودة القوات المسلحة الإسرائيلية إلى المواقع التي كانت تحتلها في 22 أكتوبر 1973، بالإضافة إلى تبادل الأسرى والجرحى.

وفي 18 يناير 1974 تم إبرام الاتفاقية الأولى لفض الاشتباك بين مصر وإسرائيل والذي بمقتضاها تحقق الانسحاب الإسرائيلي من غرب القناة، بالإضافة إلى قيام قوات الأمم المتحدة بالفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية في سيناء عند المواقع التي قامت القوات المصرية بتحريرها.

وفي 31 مايو من العام ذاته تم إبرام اتفاق مماثل لقض الاشتباك بين القوات السورية والإسرائيلية وكفالة منطقة عازلة بينهما تشرف عليها الأمم المتحدة، واسترجاع القطر السوري الشقيق لسيادته على مدينة القنيطرة ذاتها.

وفي الأول من سبتمبر 1975 تم إبرام اتفاق فض الاشتباك الثاني المصري الإسرائيلي والذي ضمن انسحابًا اسرائيليًا إلى ما وراء ممرات متلًا و الجدي وفي الجنوب إلى ما وراء حقول بترول أبو رديس و رأس سدر.

وفي 26 مارس 1979 تم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في واشنطن بين الرئيس الراحل أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيجين، والتي كفلت استعادة جمهورية مصر العربية لسيادتها على مجمل شبه جزيرة سيناء.

قضية طابا والمعركة القانونية

بدأ أول إعلان رسمي عن مشكلة طابا في مارس 1982 ، قبل شهر من الانسحاب الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء حينما أعلن رئيس الجانب العسكري المصري في اللجنة العسكرية المشتركة المشكلة لإتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء أن هناك خلافا بين مصر وإسرائيل حول بعض النقاط الحدودية وخاصة العلامة «91».

وأثير النزاع مرة أخرى يوم إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في الخامس والعشرين من أبريل 1982، وحرصا من القيادة السياسية المصرية على إتمام الانسحاب الإسرائيلي في موعده وعدم إفساد فرحة الشعب المصري بعودة سيناء اتفق الجانبان المصري والإسرائيلي على تأجيل الانسحاب من «طابا» وحل النزاع بالرجوع لقواعد القانون الدولي وبنود اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية وفقا للمادة السابعة التي تنص على ما يلى :

أولاً: أن يتم حل الخلافات بشأن تطبيق هذه المعاهدة عن طريق المفاوضات.

ثانياً: في حالة عدم إمكانية حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضات تحل بالتوفيق أو تحال إلى التحكيم . ونص الاتفاق المؤقت الذى وقعه الطرفان في حينه على عدم قيام إسرائيل ببناء أية إنشاءات جديدة في المنطقة لحين فض النزاع، وبالرغم من ذلك فقد قامت إسرائيل بافتتاح فندق «سونستا طابا» في 15 نوفمبر 1982 والاعلان عن بناء قرية سياحية هناك كما قامت أيضا بإجراء بعض العمليات الرمزية التي تشكل نوعا من فرض السيادة الإسرائيلية على منطقة طابا .

حاول الجانب الإسرائيلي  الاعتماد على فكرة التضليل الإعلامي والتزييف للحقائق خلال سيطرتهم على المنطقة من 1967 إلى 1982 فعمدوا إلى محاولات لتغيير ملامحها الجغرافية لإزالة علامات الحدود المصرية قبل حرب يونيو، وقاموا بإزالة أنف الجبل الذى كان يصل إلى مياه خليج العقبة وحفر طريق مكانه يربط بين مدينة إيلات الإسرائيلية ومدينة طابا المصرية ، وقامت إسرائيل بإزالة العلامة رقم «91» وهى العلامة الأخيرة في محاولة لتزييف التاريخ بل والجغرافيا وبناءً عليه قررت مصر أن تكون معركتها لتحرير «طابا» قانونية دبلوماسية تستخدم فيها كافة الوثائق والمخطوطات التي تحصل عليها من دور المحفوظات العالمية لكى تثبت للعالم أجمع أن حق مصر لا شك فيه وغير قابل للتنازل.

في يوم 13 مايو 1985 صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 641 بتشكيل اللجنة القومية العليا لطابا من أبرز الكفاءات القانونية والتاريخية والجغرافية، وهذه اللجنة تحولت بعد ذلك إلى هيئة الدفاع المصرية في قضية طابا والتي أخذت على عاتقها إدارة الصراع في هذه القضية مستخدمة كل الحجج لإثبات الحق ومن أهمها الوثائق التاريخية التي مثلت نسبة 61% من إجمالي الأدلة المادية التي جاءت من ثمانية مصادر، وقد نصت مشارطة التحكيم على أن المطلوب من المحكمة تقرير مواضع علامات الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، أي في الفترة بين عامي 1922 و 1948 وبالرغم من ذلك فإن اللجنة المصرية بدأت البحث في الوثائق بدءا من ثلاثينيات القرن التاسع عشر والوثائق في الفترة اللاحقة على عام 1948 حتى حرب يونيو ونتائجها.

وضمت هيئة التحكيم الدولية 5 أعضاء تمثلوا في كل من: الدكتور حامد سلطان عن الجانب المصري، وعن إسرائيل روث لابيدوت، والثلاثة الآخرون هم: بيليه رئيس محكمة النقض الفرنسية السابق، وشندلر أستاذ القانون الدولي بسويسرا، ولاجرجرين رئيس محكمة ستوكهولم. وتم عقد العديد من الجلسات وتقديم العديد من المذكرات والمذكرات المضادة والردود من الطرفين، إضافة إلى جولتين من المرافعات الشفهية.

وقائع الجلسة التاريخية لهيئة التحكيم الدولية بجنيف في تمام الساعة الثانية والنصف من مساء يوم التاسع والعشرين من سبتمبر عام 1988 بتوقيت جنيف، في قاعة مجلس مقاطعة جنيف، حيث كانت تعقد جلسات المحكمة، دخلت هيئة المحكمة يتقدمها رئيسها القاضي السويدي جونار لاجرجرين لتنطق بالحق وقد حكمت بمصرية طابا وعودة الأرض لأصحابها، وذلك في حكمٍ تاريخي بأغلبية ٤ أصوات، والاعتراض الوحيد كان من القاضية الإسرائيلية بالطبع.

ويقع الحكم في ٢٣٠ صفحة، حيث انقسمت حيثيات الحكم إلى ثلاثة أقسام، الأول إجراءات التحكيم ويتضمن مشارطة التحكيم وخلفية النزاع والحجج المقدمة من الطرفين، والثاني أسباب الحكم ويتضمن القبول بالمطلب المصري للعلامة 91 والثالث منطوق الحكم في صفحتين جاء فيه في الفقرة رقم 245 «النتيجة على أساس الاعتبارات السابقة تقرر المحكمة أن علامة الحدود 91 هي في الوضع المقدم من جانب مصر والمعلم على الأرض حسب ما هو مسجل في المرفق (أ) لمشارطة التحكيم».

وتمثل منطوق الحكم في تأكيد «أن منطقة وادي طابا» بأكملها وبما عليها أرض مصرية خالصة لقد كانت قضية طابا مواجهة حضارية بين الأجهزة المعنية في حكومتين كل منهما تسعى لتضع أمام المحكمة الدولية ما لديها من أدلة تساند موقفها وتتخذ موقف الخصم بالأدلة والأسانيد القانونية والجغرافية والتاريخية، التي كانت نتاج بحث متعمق ودراسة متأنية في أعماق الملف والوثائق في الخرائط المصيرية المحفوظة في مختلف أجهزة الدولة، وأيضا في ملفات الأمم المتحدة ودور الأرشيف في إنجلترا وتركيا والسودان.

وهو ما نجحت فيه الدولة المصرية حيث أدارت قضية طابا بأسلوب علمي متحضر على أساس مهني. في 19 مارس 1989 تم رفع العلم المصري على طابا إعلانًا عن عودة آخر شبر من سيناء إلى حضن الوطن بعد معارك عسكرية ودبلوماسية وقانونية بدأت في السادس من اكتوبر1973 وامتدت لما يقرب من 15 عاماً لتعلن تفوق المقاتل والمفاوض والحقوقي المصري على نظرائهم الإسرائيليين في ملحمة وطنية سطرها الشعب المصري بكافة أطيافه كانت ولا تزال مصدر إلهام للأجيال القادمة.

Dr.Randa
Dr.Radwa