الجمعة 19 ابريل 2024

من ورائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (38)


د. محمد غنيم

مقالات23-10-2021 | 14:40

د. محمد غنيم

 أقدم رداء منسوج .. متحف بتري للآثار المصرية في لندن

ارتدى المصريون القدماء الجلود كملابس لهم في عصر ما قبل التاريخ وبداية الأسرات (بداية 3100 ق.م تقريبًا)، وكان الخدم، والزُرَّاع، والأطفال، ذكورًا وإناثًا يظلون حتى حوالي الثالثة عشرة من عمرهم، عراة الأجسام إلَّا من قطعة من الجلد تستر عوراتهم تعرف بالـ"القراب".

وفي عصر الدولة القديمة (2686-2181ق.م تقريبًا) لبس الكهنة جلد الفهد كزي رسمي لهم، مع "نقبة" أو "إزار"، أو قطعة من القماش ملفوفة حول الخاصرة على شكل تنورة مفتوحة، اختلفت من حيث القصر والطول، والشكل والإتساع.

وكانت النقبة رداء الملوك منذ البداية، ثمَّ ارتداها كبار رجال الدولة والنبلاء ابتداءً من الأسرة الأولى حتى الرابعة، ثم أصبح يرتديها الكَتَبة والخدم والفلاحون، وكانت نساء الطبقة العليا يرتدين ثيابًا أطول تغطِّي صدورهن، بينما النساء من الطبقات الدنيا كن يرتدين نفس النقبة البسيطة مثل آبائهن وأزواجهن وأبنائهن.

وظلت النِّقبة هي الزي المميز للمصري القديم، وإن لم تحتفظ بتصميم موحد طوال العصور المصرية القديمة، فقد حدث لها تغييرات وتطورات وإن كانت طفيفة. وأصبحت النقبة، بين النساء والرجال في مختلف الأعمار بمرور الزمن، قصيرة من الأمام وتغطِّي الساق من الخلف، وربما تُلف حول الخصر أكثر من مرة.

وفي الدولة الوسطى (2050-1710 ق.م تقريبًا) أضيف إزار آخر فوق الإزار الأول وأكبر منه.

وأضافت الدولة الحديثة (1550-1077ق.م تقريبًا) غطاءً للصدر ودثارًا للكتفين كان يُلبس من حين إلى حين. وتكشف الرسومات والصور الجدارية، والآثار التي تمَّ العثور عليها، عن نمانج خاصة لملابس الأعياد، وعن الكثير من الاختلافات بين زي وملابس السيدات والخادمات وملابس الكهنة. وكان مقبولًا عند الرجال والنساء من الطبقة العليا والدنيا في المجتمع أن يظهروا صدورهم، وغالبًا ما يرتبط غا التحرر التام من الملابس بالشباب أو الفقر؛ وكان من الشائع للأطفال قبل سن البلوغ من جميع الطبقات الاجتماعية أن يكونوا عرايا، وبقاء الفتيات الجواري عاريات لأغلب حياتهم.

وكانت أغلب أقمشة ملابس المصريين القدماء مصنوعة من الكِتَّان، فقد استعمل على نطاق واسع في أغراض عديدة، منها: الملابس، وأكفان الموتى أو أربطة المومياوات، وأشرعة المراكب والسفن، والمفروشات والأربطة الطبية وغيرها. وكان الإنتاج من المنسوجات المصرية غزيرًا، وصار يُصدَّر منه إلى الخارج بكميات.

ويرجع تاريخ صناعة المنسوجات في مصر إلى عصر موغل في القدم، وقد وجدت مغازل وقطع من المنسوجات الكتانية ترجع إلى العصر الحجر الحديث. ,انتجت مصر أنواع عديدة من المنسوجات، منها المنسوجات السميكة الخشنة، والمنسوجات الناعمة الرقيقة، التي أطلق عليها الإغريق اسم Byssus أو "الدمور"، التي استعملها المصريون في لف المومياء وأثواب الآلهة
ويقتني عدد من المتاحف العالمية قطعًا نسجية، من المنسوجات الكتانية المصرية القديمة، في صور عديدة، منها أردية، ومنها لفائف مومياوات، ومنها أشرعة، ومنها أربطة طبية وغيرها. ومن أقدم النماذج على المنسوجات المصرية القديمة ذلك القميص الكتَّاني المعروض في متحف بتري للآثار المصرية في لندن بلندن، الذي يُسمى بمقيص "طرخان"، نسبة إلى مقبرة مصرية قديمة تقع على بعد 50 كيلومترًا جنوب القاهرة غرب نهر النيل، وجد فيها العديد من المقابر التي تعود لفترات تاريخية مختلفة من  تاريخ مصر القديمة، لكن أهمها هي تلك التي تعود لفترة ما قبل الأسرات، وبداية الأسرات المصرية، حوالي 3100 ق.م. عثر عليه عالم الآثار البريطاني "فلندرز بتري Flinders Petrie" عام 1913م في مقبرة من مقابر الأسرة الأولى في "طرخان"، ولم يتم التعرف على الثوب حتى عام 1977 عندما تم إرساله مع كومة من المنسوجات الكتانية الأخرى  إلى متحف فيكتوريا وألبرت في لندن لحفظها من قبل ورشة الحفاظ على المنسوجات في متحف فيكتوريا وألبرت. ثم تمَّ حفظه بعناية، وخياطته على القماش الحريري "كريبلاين Crepeline "، وهو نسيج حريري ناعم وشفاف يستخدم في صيانة وحفظ المنسوجات الأثرية، وتم تركيبها بحيث يمكن رؤيتها بالطريقة التي تم ارتداؤه في الحياة.

والقميص معروض حاليًا في "متحف بتري للآثار المصرية Petrie Museum of Egyptian Archaeology" على أنه أقدم لباس منسوج في العالم، وأقدم رداء يحتفظ بشكله المكتمل، أو شبه المكتمل، وأن عمره يربو على 5000 عام.

أقدم رداء منسوج ومكتمل الهيئة، قميص من الكتان، الأسرة الأولى (2800 ق.م تقريبًا) أو ما قبلها، متحف بتري للآثار المصرية، لندن.

وهو قميص من الكتان برقبة على شكل حرف V مصنوع من ثلاث قطع من الكتان المنسوج يدويًا مع شريط رمادي شاحب طبيعي، وأكمام مطوية. الحاشية مفقودة لذا لا يمكن معرفة الطول الدقيق للقميص، لكن المقاسات تشير إلى أنه كان مناسبًا لمراهق صغير أو امرأة نحيفة.

ويظهر القميص، علامات مميزة من الطيَّات حول الرقبة والأكمام، وعلى المرفقين، وتحت الإبط . وعلى الرغم من أن السياق الدقيق لاستخدامه لا يزال غير واضح، إلَّا أن هناك علامات واضحة على التآكل تشير إلى أنه تم ارتداؤه في الحياة
وقد أثبت اختبار الكربون المشع C14، الذي أجرته وحدة الكربون المشع بجامعة أكسفورد في عام 2015 م، أن القميص صنع بين 3482-3102 قبل الميلاد بدقة 95٪. على الرغم من أنه كان يُعتقد أنه هو أقدم لباس في مصر، وأقدم لباس منسوج على قيد الحياة في العالم، إلا أن النتائج الجديدة تشير أيضًا إلى أنه قد يكون أقدم مما كان يُعتقد سابقًا، ويعود تاريخه إلى ما قبل الأسرة الأولى.

وقام فريق من جامعة أكسفورد بقياس عينة 2.24 ملجم من الثوب لتحديد كمية الكربون المشع C14، وهو نظير مشع للكربون، بقي في الكتان، ومن هذا المنطلق، وباعتبار أن الكتان، الذي صُنع منه رداءTarkhan ، مناسبًا بشكل خاص للتأريخ بالكربون المشع  C14 لأنه يتكون من ألياف الكتان التي تنمو خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، وقد تمكن الفريق البحثي وبفضل التأريخ بالكربون المشع من تقديم تاريخ إرشادي لوقت حياكة الكتان وهو أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد.

إن وجود هذا القميص بصورته المكتملة، أو شبه المكتملة، التي وصل إلينا بها، يدل على ما وصلت إليه الحضارة المصرية القديمة من تقدم في صناعة المنسوجات الكتانية في ذلك العصر المتقدم من الزمن، وأن بقاء هذا القميص على قيد الحياة طوال هذه المدة الطويلة من الزمن أمر استثنائي، ذلك أن المنسوجات من المواد الأثرية الهشة الضعيفة سريعة التعرض للتلف والاهتراء.