الثلاثاء 23 ابريل 2024

من قيم التأسيس.. رؤية لتنشئة الأجيال (6) الإتقان سمة إيمانية إنسانية حضارية

مقالات31-7-2021 | 19:05

إن من الحقائق الآكدة أن بناء الأمم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقيمة الإتقان، وعلى العكس انهيار الأمم والحضارات يرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بعدم الإتقان .

إن الإتقان مصطلح عميق وله دلالات واسعة ومنيرة، فهو يدل على الإتمام والإحكام والدقة والضبط والجودة ، والأثر المترتب على هذا الإتقان هو الابتكار والإبداع ومن ثمَّ التميّز .

إن الإتقان لازمٌ من لوازمِ الحضارة، ومبدأٌ من مبدأ الحضارة، وسِمَةٌ من أعظم سمات الإنسانية ، من خلالها يكون النمو والرقيّ والتقدم والبناء والتنمية والحضارة.

فالإتقان قيمةٌ إيمانيّةٌ إنسانِيّةٌ حَضَارِيّةٌ ، أي أن الإنسان من خلال الإتقان يقدم طاعة لله (عز وجل) ، يقدم عبادة لله (عز وجل) ، فالإتقان مُعاملة مع الله، وما دام معاملةً مع الله إذن هو عبادة، وما دام عبادة إذن أنت تُحقِّقُ غايةً من الغايات التي لأجلها خلقك الله (عز وجل)

فالإتقان إذن هو الذي يصل بنا إلى نموذج مثالي لإنسان منظم متقن يستطيع الإدارة والتخطيط والانفعال بما حوله وفي كل شيء يصدر عنه.

إننا إن أردنا الارتقاء أكثر في التحضر.. فعلينا أن نذهب إلى ما يُفْعل ويسخّر لنا ونتعامل معه حتى ينفعلَ لنا، وهذا ما ينبغي أن نربي أولادنا عليه، أن ينفعل كلُّ إنسانٍ بما وهبه الله (عز وجل) من أسبابٍ في نفسه وفي الكون مِن حَوله؛ ليؤدي بذلك طريقًا من طرق الارتقاء بالمجتمع، والاستفادة بما هو موهوب له في صناعة حياة طيبة له ولمجتمعه ولأمته؛ ذلك كانت مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتقن الإنسان عمله: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ.

ومن هنا فإننا نفتقد التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية التي تجعل عملَ الإتقان في حياتنا مهارةً داخلية، تُعَبّرُ عن قوة الشخصية التي تُكسب الإنسانَ الاتزانَ والثقةَ والاطمئنانَ والتفردَ، إلى جانب اكتساب المهارة المادية والحركية.

وبناءً على ذلك فنحن نحتاج إلى أن نُرسّخ قيمة الإتقان في حياتنا ونعلّمها أولادنا، ونترجمها في واقعنا وسلوكنا، وكل ما يتعلق بشئون الحياة؛ لأنها على الأصل فيها سلامة الفرد والمجتمع، وتكتسب الإنسانية منها الطمأنينة، ويكتسب الكون منها الاتزان وعدم تخلف الأمور أو الفساد .

وهذا هو قول الله تعالى :  { وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة:95]، ويدل على الإتقان كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:  " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ".  [رواه مسلم]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:  " أصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ".  [رواه أبو داود] .

وإذا لاحظنا معًا قوله تعالى: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [ سورة النمل : 88] ، وقوله (عز وجل) : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7ٍ]، وقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " إِنَّ الله كتب الإحْسَان على كلِّ شيء ......" [مسلم]

نلاحظ هنا تكرار (كل شيء) في الآيات القرآنية المشرفة، وفي حديث سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ مما يعطينا إِشارة دقيقة إلى أن الإتقان ليس منحصرًا أو مختزلًا في جانب دون جانب ، بل المطلوب أن يكون كلُّ ما يصدُرُ عنك على وجه الإتمام والإحكام والدقة والضبط والجودة.

ومعلوم أن الاتقان يرتبط بما نستطيع أن نطلق عليه (المراقبة الداخلية)، والتي هي الأصل في عملية الإتقان والسلوك الإنساني الصحيح، إذن فحين نقول : إننا نريد طريق الارتقاء، فطريق الارتقاء لا يتحقق إلا بقيمة الإتقان .

وهنا أطرح سؤالاً : لماذا نجأر بالشكوى ؟

لأنه لا يوجد إتقان في الأعمال المُنتَجَة، ومن هنا فعلينا أن نُنبّه أولادنا إلى حب العمل وإتقانه في سائر المجالات ونواحي الحياة، وأن ديننا حثّنا على قيمة الإتقان لنصل إلى طريق الارتقاء، والمتمثل في الإنتاج .

وحتى نصل إلى ذلك لا بد من إرساء بعض القيم واستحضارها في نفوس أولادنا إذا شئنا أعمالا منتجة ليست معطلة، إذا شئنا أعمالا متقنة ليست سبيلًا للشكوى، ومن هذه القيَم : قيم البذل والعطاء والإصرار، والتي في مجموعها تؤدي قيمة (الإتقان) .

إن الإتقان يتأتى من استحضار تلك القيم متضامنة، وهو سبيل لدفع عجلة الاقتصاد في أي دولة .

فهناك أعمال معطّلة، وهناك ركود، وهناك كسل، وهناك اقتصاد خرب، سبب ذلك كله عدم استحضار قيمة الإتقان .

فلو استحضر الإنسانُ هذه القيمةَ، لتسارعت الأعمال المعطّلة وتم إنتاجها، ومعنى ذلك أن هذا الإنتاج سيؤدي إلى أمرين : الكفاية والفائض، كفاية لك كمستهلِك، وفائض من الممكن أن تقوم بتصديره، ومعنى أن تقوم بتصديره أي : هناك عملة صعبة، ومعنى أن يكون هناك عملة صعبة، إذن هناك ضخ للأموال في مؤسسات الدولة، فتدفع بذلك عجلة الاقتصاد .

•  فالإتقان حوّل الأمر من الكسل والخمول إلى الإصرار والبذل والعطاء، وهي قيم نبيلة دعانا إليها الإسلام .

•   الإتقان حوّل الأمة من كونها راكدة إلى أن تكون رائدة .

•    الإتقان جعل الصناعات تتمايز ولا يوجد مجال للشكوى؛ لأن كل إنسان منا أحسن في صنعته للآخر، فتمايزت لا تعاندت

•     الإتقان نقل الأمور من النفاق واختلال الأمور إلى الإخلاص والأمانة .

•   الإتقان نقل الأمر من إفساد يرفضه الكون إلى صلاح يحبه الكون .

•     الإتقان جعل حركة الناس لبعضهم البعض متساندة وليس متعاندة، فاستفاد الكل من الكل، وعاد ذلك بالنفع على الجميع .

والإتقان يتحقق بالإخلاص في كل عمل نقوم به، لأن هناك فرقاً بين العمل، وبين التوفيق في العمل – كما علّمنا علماؤنا-؛ لأن جوارحك قد تنشغل بالعمل، ولكن النية قد تكون غير خالصة، عندئذ لا يأتي التوفيق من الله.

أما إن أقبلت على العمل وفي نيتك أن يوفقك الله سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلاص، فستجد الله تعالى وهو يصوِّب لك أيَّ خطأ تقع فيه، وستنجز العمل بإتقان وتشعر بجمال الإتقان.

فمتى نصل بأنفسنا وبأولادنا إلى جمال الإتقان؟!

ثم إن الإتقان غير منحصر في جانب دون آخر، فتربية الأولاد على قيمة الإتقان في جميع المجالات، بحيث يكون سلوكًا لا ينفصل أبدًا عن الإنسان في شتى شئونه، في كل عمل سواء كان تعبديًّا أو عمليًّا أو اجتماعيًا .

فالأصل هو التمام والكمال في كل عمل تقوم به من عبادات أو معاملات أو آداب أو أخلاق أو معتقدات؛ ولذلك وجدنا سيدنا إبراهيم الخليل يقول : {  قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [ سورة الأنعام :161-162] .

وإذا كنا بصدد تنشئة الأجيال على هذه القيمة الرائعة، فينبغي أن نؤسسهم على تجنب ما يناقضها من الفوضى والتسيب والتخبط واللامبالاة والعشوائية وفقدان النظام .

وكذلك علينا أن نحثهم على أن يتخلقوا بأخلاق الله (عز وجل)، ومن بين صفاته جلّ وعلا  -والأصل أن نعمل بمقتضى سائر صفاته- ( صفة الإتقان )، قال تعالى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [ سورة النمل : 88] ، وقال تعالى : {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7ٍ].

وأن هذه الآيات الكريمة ترسِّخ وتغرس فينا الشغف بقيمة الإتقان في كل تصرف وعمل وسلوك.

ومن هنا قال بعض مشايخنا مبرزًا المعنى المشار إليه في الآيات السابقة: يعني الإنسان تأبى همته الشريفة الأبية، أن يدخل في أي شيء ثم يخرج منه وهو قد أدى فيه أداءً رديئًا، وإذا رجعنا بالذاكرة لنرى أين العمود الفقري والأساس الذي نهضت عليه الحضارات والدول والأمم والشعوب؟ وأين مدار السبق والتقدم في قلعة من قلاع الصناع في العالم مثل المانيا وغيرها؟ وأين  الجودة في منتجات الدول ذات الريادة الصناعية؟

سنجد أن السبب الرئيس لكل هذا هو قيمة (الإتقان).

وإذا كنا في طريق تأسيسنا للأجيال، فيجب أن ننظر إلى أول عمل يتطلب الإتقان في حياة المسلم عند اكتمال نضجه وبلوغه العقلي، هو الصلاة حيث يطالب بها في السابعة ويضرب عليها في العاشرة، فإذا وصل مرحلة الشباب والتكليف كان متقنًا للصلاة مجودًا لها محسنًا أداءها، فالمسلم في الصلاة يتقن عددًا من المهارات المادية والمعنوية، فإقامة الصلاة وما يطلب فيها من خشوع واستحضار لعظمة الخالق، وطمأنينة الجوارح، وتسوية الصفوف، ومتابعة الإمام، ثم ممارسة الصلاة خمس مرات في اليوم، كل هذه من الممارسات التي تتطلب التعود على الإتقان حتى تنتقل هذه العادة من الصلاة إلى سائر أعمال المسلم اليومية دنيوية أو أخروية .

إذن نحتاج إلى تعليم وتربية مكثفة لأهمية الإتقان في حياة الأفراد والمجتمعات، وأنه سبيل النهوض والارتقاء والحضارات .

  

Dr.Randa
Dr.Radwa