الجمعة 19 ابريل 2024

شهر رمضان.. شهر بداية حصول التجلي وانفتاح النور

مقالات16-4-2021 | 15:01

القرآن الكريم هو الميثاق الأعظم والخطاب الإلهي الأفخم، جعله الله حبلًا ممدودًا بين السماء والأرض. فمن أراد أن يكون موصولًا برب العالمين، موصوفًا بالفهم عن الله عز وجل، فليقبل على القرآن الكريم. وساعة نسمع كلمة القرآن نفهم أنه يقرأ، وبعد نزوله وجمعه أصبح كتابًا، فهو قرآن إذا أخذنا أنه يُقرأ، وهو كتاب إذا أخذنا أنه يكتب، ومعنى هذا أن هناك وسيلتين لتلاوة القرآن الكريم؛ لأنه يُحفظ في الصدور، ويسجل في السطور، بحيث يستطيع انسان أن يقرأه في أي وقت.

وشهر رمضان هو شهر بداية النور وانفتاحه ، هو شهر بداية حصول التجلي؛ إذ نزل القرآن الكريم فيه على قلب سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ليلة عظيمة مباركة هي ليلة القدر، قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}( سورة البقرة : الآية رقم 185)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(سورة الدخان : الآية رقم 3)، وفي ليلة القدر تحديدًا قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}( سورة القدر : الآيات رقم 1-3)، والقرآن الكريم هو نور نزل من النور على النور بواسطة النور إلى النور .

فالقرآن الكريم نور {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}(سورة النساء : الآية رقم (174)، نزل من النور وهو الله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، على النور وهو سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ }(سورة المائدة : الآية رقم 15) ، بواسطة النور، وهو سيدنا جبريل ، وجبريل من الملائكة، والملائكة قال في حقها سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنها خُلِقت من النور(حديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب الزهد والرقائق/ باب في أحاديث متفرقة عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" ، حديث رقم 60)، إلى النور ، أي: إلى أمة النبي (صلى الله عليه وسلم) {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } (سورة التحريم : الآية رقم 8) .

والأصل في القرآن الكريم هو التأمل والتدبر؛ لأنه اشتمل على الأوامر والنواهي التي تضبط حركة الإنسان الحياتية مع نفسه ومع بني جنسه ومع سائر أجناس الكون، وقراءتك للقرآن الكريم عبادة ولك أجر، وأن تعطي كل حرف مخرجه الصحيح عبادة ولك أجر، وأن تُحَكّمَ قواعدَ التجويد عبادة ولك أجر، ولكن لا بد مع ذلك كله أن تنفَعِلَ أنت لآيات القرآن الكريم، ومن هنا نفهم وصف السيدة عائشة (رضي الله عنها) لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قالت: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) (أخرجه الإمام أحمد في مسنده : 41/148) أي: كان (صلى الله عليه وسلم) خيرَ مطبق لآيات القرآن الكريم .

إننا إذا افترضنا أن هناك مريضًا ذهب إلى طبيب متخصص ، فإن هذا الطبيب يقوم بوظيفتين ، الأولى: تشخيص الداء، والثانية: تشخيص الدواء، ثم يخرج المريض ومعه المنهج، الذي نسميه (الروشتة) مكتوب فيها أنواع الدواء المختلفة ، فإذا ذهب المريضُ ليدرس هذه الأنواعَ من حيث تركيبها الكيمائي، ودواعي استعمالها، وأثرها، وما تعالجه من أمراض أخرى، وذلك كله دون أن يأتي بالدواء نفسه لينفعل له، ودون أن يسير على المنهج الذي حددّه له الطبيب من حيث الزمان والطريقة والمتابعة، فكيف سيصل إلى الشفاء، الذي هو بإذن الله تعالى؟!

كذلك يجب أن ننفعل للآيات القرآنية وأن نُحَوِّلَهَا إلى واقع عملي في حياتنا، فالأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم هي قوانين لصيانة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي قوانين نصنع بها جمالًا في الدنيا فينتظرنا الجمالُ في الآخرة إن شاء الله تعالى .

وقد جاء في مسند الإمام أحمد: (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَارَضُ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ ) (أخرجه الإمام أحمد في مسنده: 6/396) .

وعلى المسلم أن يجالس الله عز وجل من خلال قراءة القرآن الكريم، ومعلوم أنه بمجرد أن يدخل رمضان تتحرك المشاعر متوجهة لقراءة القرآن، وهنا ينبغي أن يفرّق المسلم بين نزول القرآن وبين تنزّل القرآن .وقد ذكر بعضُ العلماء أن هناك نزولًا للقرآن الكريم وهناك تنزلًا، والنزول قد انقطع، أي نزول القرآن من عند الله عز وجل وحيًا، أما التنزّل فهو لم ينقطع، والمقصود به أن الإنسان عند قراءته القرآن حين يستقبل كلام الله عز وجل بفطرته النقية وبجهاز استقبال مصفَّى، فقد يتنزل عليه بعضُ أسرار كلام الله (عز وجل)، فإذا كان النزول قد انقطع، فهناك التنزّل الذي لم ينقطع، فمتى نصفى جهاز استقبالنا لاستقبال كلام الله (عز وجل) بتأملٍ وتدبر، فيَتَنَزَّلُ علينا من أسراره ؟! وقد قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَيَلْعَنُ نَفْسَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ يَقُولُ: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(سورة هود: الآية رقم 18)، وَهُوَ ظَالِمٌ نَفْسَهُ ، يمر بالآية: {فَنَجْعَلْ لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(سورة آل عمران : الآية رقم 61) وهو منهم) (إحياء علوم الدين ، حجة الإسلام أبي حامد الغزالي : طبعة دار المعرفة – بيروت : (1/275).

فالأًصل إذن هو محاولة تدبّر معانيَ القرآن، وترجمة هذه الآيات القرآنية المشرَّفة إلى برامج عمل وخطط تطبيقية، فالعبرة ليست بالكَمِّ المقروء، وإنما العبرة بالكَيْفِ ومدى تحويل الآيات القرآنية إلى أخلاقٍ عملية في حياة كل مسلم، فكرامة القرآن لا تكون إلا لمن انفعل بهِ وترجَمَ معانِيَه في حياته، وهذا سلوك ومنهج ينبغي أن يتمثّلَه المسلمُ .