الخميس 25 ابريل 2024

رحلة البحث عن الجميلة «نفرتيتي»

سيدتي25-12-2020 | 20:33

أقوى ملكات مصر القديمة، لعبت دورا تاريخيا خلال عصر الأسرة الـ18 خلال الثورة الدينية والاجتماعية التي قادها زوجها "اخناتون" في نشر المفاهيم الجديدة، ارتدت تاج الملك ذي ريشتين وتحته قرص الشمس، وحملت لقب الزوجة الملكية العظيمة وأنجبت ستًا من البنات وظهرت أثناء الاحتفالات بالقضاء على الأعداء على جدران معابد "آتون" بتل العمارنة.

 

تمثال الملكة "نفرتيتي"، "غير اعتيادي إطلاقا" على حد وصف عالم الآثار ديتريش فلدونج، مدير المتحف المصري ببرلين سابقا (1989-2009), حيث دوّن في كتابه "الوجوه المتعددة للملكة نفرتيتي"  قطعة فنية لا تخلو من الغموض, العنق الرشيقة، تخرج من بين الأكتاف مائلة بعض الشيء إلى الأمام, والناظر إليها يرى عظام الترقوة البارزة الأوتار والمشدودة على جانبي الحنجرة الدفينة وتحيط بها العضلات الممتدة من الخلف،، والذقن ترتفع إلى الأمام فتضفي حيوية وطاقة على نظرتها المركزة على شيء غير مرئي يقابلها بشكل يجعل الهروب من نظراتها مستحيلا.

 

لم تكن زيارة العاصمة الألمانية برلين مجرد رحلة سياحية للاستمتاع بمعالمها التاريخية، مع أنها مدينة تستحق الزيارة، فهي كالعنقاء نهضت من وسط الرماد، وعانت من الدمار نتيجة الحروب الدامية، وعاشت سنوات من القهر والظلم, وشطر قلبها سور حجري لسنوات طويلة، لكن رحلتي جاءت بغرض آخر، البحث عن تلك الملكة المصرية التي تطل بشموخ على قصر الملك "فريدريش الرابع"، والتي تنظر في أفق رحب غير عابئة بعشاقها الذين يأتونها من كل صوب، لا تبالي بملايين الزوار الذين يأتون كي يطوفون من حولها ويتعبدون جمال طلتها من بعيد، تلك الملكة الجميلة " التي أتت من بعيد" أو "نفرتيتي"، والتي ظللت أكتب عنها سنوات طوال، زرت خلالها مدينتها "آتون" أو تل العمارنة كما يطلقون عليها اليوم، تنقلت بين أركانها ومقابرها المنحوتة في صخور الجبل الذي يحيط بها، وقفت بين أطلال قصرها الفخيم، وترددت مرات عديدة على القاعة التي تحوي آثار زوجها الملك وبناتها داخل المتحف المصري المطل على ميدان التحرير، وأمام تمثالها وقفت أنظر إليها علني أجد إجابة عن سؤال واحد فقط، ما سر تمسك الألمان بتمثال الملكة المصنوع من الحجر الجيري الملون على مدار أكثر من مئة عام وحتى يومنا هذا، واعتباره تراثا ألمانيا إنسانيا غير مسموح بخروجه خارج الأراضي الألمانية بالرغم من كونه تمثالا مصريا ملكيا فريدا من نوعه.

كان لابد من شد الرحال إلى آخر محطات الملكة ذات الجمال الفريد، في رحلة لم تستغرق أكثر من ست ساعات بالطائرة وصلت إلى منفى الملكة "نفرتيتي " في مدينة برلين، وهو المكان الذي لم تختَره الملكة وظلت حبيسة فيه أكثر من مئة عام، أمامها وقفت في حالة ذهول، لم أرَ تمثالا متقن الصنع بهذا الشكل، عشرون عامًا من الكتابة عن القطع الأثرية, لم أجد لهذا الجمال مثيلا، تكاد تنطق من الحياة، ظللت أطوف حولها أبحث عن شيء ما يجعلني أتخيل كيف كانت تلك الجميلة تعيش على أرض مصر وسمحنا لها أن تغادرها في غفلة منا، وكيف سحرت تلك الجميلة القلوب بتمثالها الملون.

 واحدة من أقوى السيدات والملكات في مصر القديمة, زوجة الملك المتمرد أخناتون وصاحبة النفوذ،ولعبت دورا تاريخيا خلال عصر الأسرة الـ18 خلال الفترة ما بين (1334 – 1350) قبل الميلاد خلال الثورة الدينية والاجتماعية التي قادها أخناتون في نشر المفاهيم الجديدة، وارتدت تاج الملك ذي ريشتين وتحته قرص الشمس، وحملت لقب الزوجة الملكية العظيمة وأنجبت ستًا من البنات، كما ظهرت "نفرتيتي" كملكة أثناء الاحتفالات بالقضاء على الأعداء كما بدت على جدران معابد "آتون" بتل العمارنة.

وعند تلك التلة الطينية التي تحمل لون سواد أرض "كيميت" كانت لي لحظات تأمل طويلة، إنها نفس المكان الذي احتضن آخر ممتلكات الملكة الجميلة "نفرتيتي" قبل أن ترحل بعيدا إلى أوروبا، إنها التلة التي آوت تمثالها الملون لأكثر من 3300 عام، عندها لا تزال الحكايات تتردد على ألسنة عمال الحفائر هناك، يتلاسنوها أبًا عن جد، الكل ينتمي لنفس القبيلة، "العمارنة" التي ظلت سنوات طويلة تعمل في خدمة المنطقة الأثرية التي تحتضن مدينة الملك المتمرد "أخناتون" والتي اختارها بعناية بعيدا عن أرض طيبة وكهنة آمون، جاءها حالما بمدينة طاهرة يحتضنها جبل شديد السواد، لا تزال أركانه تحمل تسابيح الملك التي يستغفر فيها ويرتل للإله ترتيلا أملا في الرحمة والمباركة، ولا تزال الشمس على حالها حارقة برغم نسمات الشتاء الباردة، عند تلك التلة الطينية.

 وفي 6 ديسمبر 1912 بدأت عملية البحث، كالعادة, بدأ العمل على مهل، كل أثري يعمل في مربع مساحته 200 متر × 200 متر في وادي الجبل الكبير الذي يتخذ شكل القوس، وفي الركن البعيد جلس رئيس البعثة داخل خيمته لعل النهار يأتيه بجديد، كان العمل في بداية الموسم الثاني للتنقيب عن كنوز مدينة "آتون" عند تلك البقعة المهجورة على البر الشرقي وسط مصر، وفجأة يقطع جدار الصمت صوت العامل الصبي، يهرول صائحا: "يا مستر، يا مستر"، يجري منقطع الأنفاس قادما من مربعه الذي يحمل رقم  47p حتى يصل إلى الخيمة الكبيرة حاملا في يده ورقة صغيرة كتبها الأثري هنري رانكة قائلا فيها :"عثرنا على تمثال نصفي لامرأة رائع الجمال، يجب أن تراه، في البداية لم يهتم رئيس البعثة الذي اعتاد حماسة أعضاء بعثته، ذهب إلى الموقع ببطء شديد، وعند رؤيته للتمثال لحظة خروجه من وسط الرديم، ملون ذو عين واحدة سليمة تشع بالحياة, وفوق رأسها التاج الأزرق الملكي المزين بأفعى الكوبرا، بدت أمامه امرأة جميلة القسمات ذات رقبة شامخة وقلادة نادرة الإتقان، لم يصدق ما رآه، أصابته الصدمة من هول ما رأى، جلس يحاول جمع شتات أفكاره، سيطر عليه القلق، عينه الخبيرة تيقنت أن تمثالا بمثل تلك الروعة لا يمكن أن يحتفظ به الجانب الألماني طبقا لقانون الآثار المصري وقتها، لذا احتضن التمثال على الفور وأحكم لفه بالقماش، وخبأه في صندوق وسط منطقة مظلمة داخل خيمته، وظل معاونوه يبكون طوال الليل داخل خيامهم لتيقنهم أن التمثال لن يخرج من مصر أبدا.

تلك تفاصيل اليوم الذي عثرت فيه البعثة الألمانية برئاسة عالم الآثار لودفيج بورخارت وبتمويل من جيمس سيمون على التمثال، اللذين نجحا في تهريبه خارج وطنه وحبسه منذ حينها، بالرغم من أنه أجمل تمثال لملكة فرعونية وأعظم كشف أثري عرفه التاريخ يرجع تاريخه إلى فترة الملك أخناتون الذي حكم مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

تلك بعضٌ من المشاهدات التي ظلت تراودني طوال رحلة السفر إلى برلين، لم أتمكن من الفكاك منها، خاصة بعد الوصول إلى تلك المدينة التي لا تزال ملامحها تصارع روح الهزيمة وتخلق من رحمها ما يعينها على الحياة والمقاومة، يبدو ذلك جليا وسط شوارعها, وعلى أرصفتها, وفي رسومات الجرافيتي التي لا تزال تزين ما تبقى من سور برلين الذي تحول إلى موطن للفنون والثقافة ومكان للممارسة حرية التعبير إلى حد الصياح والاعتراض الصارخ، تجولت في شوارعها ولم أتمكن من زيارة الملكة في يوم الوصول، لكن مع أول نسمات الصباح الباكر بحثت عن تلك الجزيرة التي تقطع نهر "شبري"، إنها جزيرة المتاحف الألمانية، والتي تحتضن أهم خمسة متاحف فنية تحكي تاريخ فنون البشرية وتكشف عن منجزاتها في كل المجالات من فنون وعمارة، والتي تعود جذورها إلى القرن الثامن عشر وتجسد رؤية جديدة لمفهوم فن المتاحف عبر العصور، وهي ظاهرة بزغت خلال تلك الفترة، بحيث يكون تصميم كل متحف مرتبطا بعلاقة عضوية بما يحويه من مقتنيات وكنوز, وهو الأمر الذي يعظم فكرة التطور الحضاري الإنساني.

وعند جسر "فريدريش" نقرأ لافتة مكتوبًا عليها : "متنزه جيمس سيمون" وهو ما أطلقوا عليه اسم :"جزيرة المتاحف"، الكل يعبر الجسر ويبدأ رحلته دون أن يعلم من هو جيمس سيمون الذي يطل رأس تمثاله البرونزي, الذي نحته الفنانة تينا هايم، نجده يركن داخل محراب خافت الضوء بجانب الحائط داخل قاعة القبة الشمالية بالمتحف الجديد، يطل هناك بتواضع جمّ أمام جميلة الجميلات "الملكة نفرتيتي" داخل القاعة التي تحتضنها بمفردها, إنها ملكته وهو مالكها، قام بتمويل أعمال التنقيب الأثري داخل منطقة "تل العمارنة" وبالتالي هو من حصل على نصف ما عثرت عليه البعثة الألمانية، وهو الذي تبرع بما يملك من مقتنيات لصالح المتحف الوطني ببرلين عام 1920.

قصة جيمس سيمون تكشف كثيرا عن تفاصيل معاناة برلين وأهلها من النازية مع بدايات القرن العشرين، هو مواطن يهودي ولد في 1851, عمل كرجل أعمال وكان صديقا للقيصر وليام الثاني، معروف بولعه الشديد بالفنون، لكنه دخل دائرة النسيان مع صعود الحكم النازي عام 1932 حتى عام 2007 عندما قامت ألمانيا بإطلاق اسمه على متنزه المتاحف إحياء لذكراه.

كان لابد من عبور الجسر والدخول في أعماق تلك الجزيرة الصغيرة، وفي القلب يطل المتحف الجديد الذي يقابل قصر القيصر الابن "فريدريش فيلهيلم الرابع"، ويحوي مقتنيات جيمس سيمون وآثار تل العمارنة النادرة ورأس الملكة المتوجة نفرتيتي "الجميلة أتت"، دخول الجزيرة مجانا لكن دخول متاحف الجزيرة الخمسة يتطلب تذكرة مجمعة قدرها 18 يورو, في حين إذا كان الزائر يريد متحف "نفرتيتي" فقط كما يطلقون عليه بشكل غير رسمي، فإن تذكرة الدخول تبلغ 12 يورو، فهو أشبه بالدخول إلى مغارة "علي بابا"، مليء بكنوز أثرية لا مثيل لها في متاحف العالم، مقتنيات أثرية مصرية, تماثيل وتوابيت ولوحات جدارية, يجعلها من أهم المتاحف التي تحكي تاريخ الحضارة المصرية القديمة.

وبالتأكيد هو متحف فريد يطل فيه تمثال الملكة الجميلة "نفرتيتي"، والتي لن ترى في جمالها أو جمال صنعة رأسها الصغير، قطعة أثرية لا مثيل لها، تنظر في شموخ هناك, في الدور العلوي من تحت قبة المبنى الأثري الفخيم الذي يحتضن آثار تل العمارنة، كان لابد من تخطي السلالم من أجل اللحاق بذلك العرض الملكي المهيب، وعند الاقتراب من موقع الزحام والتهافت، علمت أنني أصبحت شديد القرب منها، يحتاج الوصول إليها عبور القاعات التي تحوي كل آثار تل العمارنة، كل أفراد أسرة الملك هناك مجتمعون، تماثيل لزوجها الملك الموحد أخناتون, وعدد من اللوحات الجدارية التي تكشف عن طقوسه وعباداته للإله "آتون"،أولا يتحتم دخول قاعة سيدات العائلة الملكية, تتصدرهن الملكة الأم "تي" بسمار بشرتها تحمل فوق رأسها ريشتي الملك، ثم تتوالى تماثيل بناتها حتى نصل إلى الأميرة "عنخ إست آمون"، ثم تأتي قاعة الملوك وعلى رأسهم الملك أخناتون ومعه ابنه الفرعون الصغير توت عنخ آمون، وعند اختراق الزحام تتراءى للزائر فجأة وسط أجواء من السكون تحت القبة الشمالية، ملكة الشمس في منتصف القاعة المظلمة لتتحقق كلمات "سفوكلس" المدونة على إحدى بوابات المتحف :" الإبهار يؤثر في الكثيرين لكن لا يوجد شيء أكثر إبهارا من الإنسان".

من نفس المنطلق كتب لودفيج بورخارد، مدير الحفائر الأثرية بتل العمارنة، والذي عثر على رأس الملكة وسط الرمال، حيث وصف التمثال في مذكراته: " إنه عمل مذهل" عندما رآه للمرة الأولى, وهو ما يشعر به كل من يراها في قلب المتحف تحت القبة الخضراء التي تزينها الملائكة، من بعيد تراها تطل بشموخ لا مثيل له, وبجمال بشري غير مسبوق يصل إلى حد الكمال, ومن حولها تصطف حارسات القاعة, ملامحهن غليظة, يقفن بالمرصاد لكل من تُسوّل له نفسه رفع يده لتصوير الجميلة, يصِحن في وقت واحد :"لا للتصوير" بلغة ألمانية قوية, الكل يطوف حولها وكأنه يتعبد جمالها, دقة تفاصيل الوجه, الحياة البادية من عينها اليمنى المتبقية, كأنها تنظر إليك بعظمة, ذقنها, رقبتها, خداها, صمتها, لا يملك من يراها إلا أن يردد كلمات "بورخارد" :"إنها عمل مذهل"، أنظر من حولي أجد كل أجناس الأرض مجتمعين في رحابها، يقفون أمامها ويتأملوها في شغف،لا يملكون سوى الصمت، لم تر العين جمالا يضاهي جمالها، ومعهم أقف وأناجيها بين خلجاتي: يا ملكة الشمس الجميلة من أين أتيتي؟ 

ويؤكد "فلدونج" أن نظرة نفرتيتي تمثل "ديناميكية افتراضية نموذجية وهي لحظة مثيرة تتحقق قبل الإتيان بحركة محتملة تدفع الناظر إليها إلى البقاء واقفا متأملا كي لا تفوته تلك اللحظة التي يبدأ فيها الوجه بالعودة إلى الحياة من جديد؛ وبالرغم من عدم وجود العين اليسرى إلا أنه لم يؤثر على جيوية التمثال,فهو يرى أن :"العين اليمنى تكشف بشكل مثالي تكنولوجية التركيب المتقدمة عند المصريين القدماء,هي عبارة عن طبقة رقيقة من بلورة حجر كريستال صخري تحت جفن العين ,ومقلة العين مشكلة بالشمع الشفاف,والأداء المثالي لكحل العين والحاجبين يمنح الناظرة إثارة عاطفية لا مثيل لها, والشفتان المكتنزتان فتعبران عن جمال امرأة تمثل رمزا للجمال الأنثوي لا يتأثر بالزمن".


 في عام 1930 نشرت إحدى المجلات الألمانية المتخصصة في الفن والفنانين "برونو كاسيرار" عن تمثال الملكة للمرة الأولى بأن شهرته ترجع إلى تميزه الشديد والبراعة المتناهية في صنعه بشكل لم يكن متوقعا أن يحدث قبل 3300 عام،" وبعد عشر سنوات يعلن فريدريش فيلهيلم فون، وهو أحد رعاة تاريخ الفن المصري القديم بأن التمثال "صورة حرفية مصنوع يدويا"، والأمر المدهش هو ثبات ألوانه، فهو غير عادي.


    Dr.Randa
    Dr.Radwa