الخميس 25 ابريل 2024

عشاق المسرح (6)

مقالات18-10-2021 | 13:04

 لابد أن نتوقف عند تحول فن المسرح إلى علم، وكان معهد التمثيل النواة الأولى لقيام أكاديمية الفنون، الجامعة الفنية الوحيدة فى الشرق الأوسط بما تضم من كيانات علمية وصلت إلى عشرة معاهد متخصصة، كل منها فى أحد الفنون. بدأ المعهد فكرة فى رأس طموح هو "زكى طليمات" تواصلاً مع أساطين عصره ممن احترموا المهنة، خاصة المخرج عزيز عيد، ثم البعثة التى ذهب إليها جورج أبيض لدراسة التمثيل حين خاطب زعيم الأمة سعد زغلول لدعم سفره، كما ذكرت ابنته، ثم توالت رحلات السفر العامة والخاصة؛ أى على نفقة صاحبها، من يوسف وهبى واستفان روستى وغيرهما، ربما كان كل هذا بدأ بدافع التطوير الذاتي.

لكن طليمات أمسك بالفكرة / الحلم وحوّلها بدأب شديد لواقع وذلك منذ عام 1930، حين صدر قرار من وزير المعارف (التعليم) وقتذاك مراد سيد أحمد باشا بتشكيل لجنة مهمتها وضع المقترحات الهادفة للارتقاء بالتمثيل والممثلين، وانتهت اللجنة إلى إنشاء "معهد التمثيل الحكومي" خصصت له ميزانية قدرها "خمسة آلاف جنيه" وكان أعضاء إدارة المعهد د. طه حسين وأمير الشعراء شوقى والشاعر خليل مطران وطليمات، يا نهار أبيض..

بدأت الدراسة بالفعل فى أكتوبر بطلاب بينهم فرج النحاس ومحمد عبدالقدوس، وطالبات من بينهن روحية خالد ورفيعة الشال وزوزو حمدى الحكيم، ولم تدم الدراسة سوى عام واحد وأغلق المعهد لأسباب لم تُعلم حينها، لكن طليمات فى مذكراته (ذكريات ووجوه) يرجعها لحذر من الملك فؤاد على عرشه لا أكثر. ويستمر دأب طليمات الرائد الطموح فيفتتح مدرسة ليلية لتعليم التمثيل فى مدرسة أهلية "مدرسة الدواووين"، إلى أن ينجح عام 1944 بمساندة مثقفي مصر الكبار فى إعادة افتتاح المعهد وحمل اسم "المعهد العالى لفن التمثيل العربي"، ويتأكد نفس ما أشرنا إليه من قبل؛ أى رسوخ الروح القومية عند عشاق المسرح.

 

والتحق بتلك الدفعة شباب سوف يكونون أبناء المسرح ثم نجوم تتطور بهم صناعة السينما ودراما الإذاعة، عبد الرحيم الزرقانى ومحمد توفيق وفريد شوقى وعمرالحريرى وشكرى سرحان وشقيقه صلاح، وحمدى غيث وسميحة أيوب ونعيمة وصفى وملك الجمل وفاتن حمامة، وحين ينهون دراستهم سوف يكوّن بهم طليمات فرقة "المسرح الحديث". وينتسب للدراسة مدبولى والجزيرى والتطاوى وأردش بسبب عملهم فى وظائف، وعندما ينجحون العام الأول يتحولون لطلاب نظاميين فى العام الثاني، وتلك المجموعة كما نعلم سوف يكونون أول فرقة مستقلة بتعبيرنا اليوم هى فرقة "المسرح الحر" فى بداية الخمسينينات، وتغذى المسرح المصرى بروح شابة فقدموا مسرحا لكتّاب شباب مثلهم منهم نعمان عاشور ومحمود دياب وكاتبات مثل صوفى عبد الله وجاذبية صدقي.

 

رسخ علم المسرح على يد عشاقه ممن حوّلوا الهواية إلى دراسة وصادف شغفهم اللحظة السياسية بقيام ثورة يوليو، فبعد عدة سنوات وتحديدا عام 1958 يصدر القرار الجمهورى الخاص بتنظيم وزارة الثقافة والإرشاد القومى بنقل تبعية المعهد العالى للفنون المسرحية، هكذا أصبح اسمه، ثم تنشأ أكاديمية الفنون على يد البناء العظيم ثروت عكاشة، فيقوم معهد الكونسرفتوارعلى يد الخالد أبوبكر خيرت، ومعهد السينما يجد محمد كريم وبدرخان، ومعهد الموسيقى الذى كان معهداً للهواة فى مقره القائم إلى اليوم فى شارع رمسيس مقابل جريدة الأهرام، فيجد أساطين الموسيقى والألحان يدرسون ويُعلّمون، لتتخرج أجيال لا حصر لها ينيرون سماء الفن المصرى وقد امتزجت مواهبهم بالعلم، وفى مرحلة من أهم المراحل ترسل البعثات إلى مراكز علوم الفنون فى العالم "الاتحاد السوفيتى، الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، النمسا، إسبانيا، بولندا، المجر" وغيرها.

ومنذ أيام معدودة ودعنا المؤسس الثانى للأكاديمية دكتور فوزى فهمي، فهو ابن بار لمعهد الفنون المسرحية ثم للأكاديمية، فقد قدم لها خطوات إدارية وعلمية كثيرة، بدأ بتطبيق لائحة الجامعات المصرية ثم التوسع فى التشييد والبناء لمعاهدها، فأصبح للأكاديمية جناحان؛ الأول الذى أسسه دكتور ثروت عكاشة ويضم الفنون المسرحية والموسيقى العربية والكونسرفتوار والباليه وقاعة عرض الفنون التى حملت اسم رائد الموسيقى العربية الحديثة السيد درويش، وأصبحت تسمع مواطن من أهل المنطقة يقول "انا ساكن عند مسرح سيد درويش"، الجناح الثانى الذى أسسه فهمى ضم مبانى معاهد النقد الفنى والفنون الشعبية ومبانى خدمات مثل المستشفى والفندق وإدارات للمعاهد واستديوهات سينما على أحدث النظم التقنية وغيرها.

 

كان د.فوزى كثيرا ما يتحدث عن خططه تلك ونحن بعد طلاب ويشرح لنا كيف أن هذا التوسع سوف يعنى مزيدا من الطلاب وفرصا أكثر لجودة التعليم والتواصل مع أحدث تقنيات الفنون العالمية والكثير مما ننعم به اليوم أساتذة وطلاب، فقد تمتع بمقدرة تحويل الأحلام إلى حقائق.

تتلمذ د.فوزى على يد الناقد الكبير محمد مندور وكان يلقبه بـ"شيخى" فى حين كان يقول عن نفسه "أنا خوجه" أى أستاذ أو معلم، كانت محاضراته طوال عشرات السنين مهمة لكل طالب، شغلته عنها قليلا مهام الإدارة حين تولى الأكاديمية كثانى ابن من أبنائها بعد الراحلة دكتورة سمحة الخولى عَلم الموسيقى البارز، كانت محاضراته ثرية بالأسئلة واستثارة ذهن الطالب للتفكير وطرح السؤال الذى يفتح النص المسرحى ليقدم قراءة جديدة بمنهج نقدى جديد يتواصل مع أحدث ما يدور فى العالم، كان "خوجة" حاسماً قاسياً أحياناً لكن بحنان، وتلك معادلة ذكية أدخل عليها فى مرحلة الدراسات العليا تعديلا ضروريا، حيث كبرنا عدة سنوات وتكونت ذات تعتز بنفسها وموهبتها وما اكتسبته من معارف متخصصة، فحوّل العلاقة لصداقة تجمع الخوجة والباحث وتستحثه على التميز. ثم فتح لنا آفاقاً عالمية حين خطط ونظم مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبي، ليعود على كل مسرحى مصرى وعربى بما نحضره لمشاهدة ما لا نستطيع السفر له، بل وعالمى، حيث يحضرالمسرحيون من العالم لمعرفة المسرح فى بلادنا فنجدهم بيننا فى مسرحية مصرية أو سورية أو خليجية ويتناقشون معنا، وكان ما يجمعنا لغة المسرح والشغف بها وبكل جديد، وترسخ علم المسرح بتوالى عشاقه المخلصين.

 لم يترك فوزى فهمى أبناء أو بنات يحملون اسمه، لكنه ترك من يحملون عقله وفكره وشغفه بالمسرح والنقد والإدارة الثقافية، ترك إرثا كل تلامذته بل وزملائه ورثوه، ترك دموعا فاضت من العيون فى وداعه المفاجئ وترك ذكريات فى القلوب لن تنتهي، بل سوف تتجدد كلما قرأنا مسرحياته أو جلسنا فى قاعة درس بالأكاديمية أو كلما تذكرنا نصيحة شخصية منه أو قرأنا نصا مسرحيا درسناه معه.

Dr.Randa
Dr.Radwa