الثلاثاء 16 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (36)

مقالات10-10-2021 | 10:54

نموذج خشبي صغير لسفينة صيد – متحف المتروبوليتان

كانت الحياة في مصر تنحصر في شريط ضيق على جانبي نهر النيل، في واديه وعند دلتاه، ولأن نهر النيل، الرابط بين جنوب مصر وشمالها، كان الطريق السهل للنقل والانتقال، ولصيد السمك، كما كان لوجود بحرين كبيرين شرق مصر وشمالها، كل هذا دفع المصري القديم للتفكير في ضرورة استغلال المياه في التنقل، والملاحة، والتجارة، فبنى المصري القوارب الصغيرة، والمراكب المتوسطة الحجم، وسفن النقل الكبيرة التي جابت البحار وطفت على سطح مياه الأنهار، وصارت السفن والملاحة جزءًا من حياته.

ومنذ العصور المبكرة، قبل الفينيقيين، كانت السفن المصرية تمخر عباب البحر الكبير في جرأة، متجهة نحو سوريا أو هابطة نحو الصومال. وإبان الدولة القديمة، أبحر المحاربون من أسوان، وسافر الرحالة المحترفون حتى البرزخ وشواطئ البحر الأحمر حيث كانوا يستقلون "سفن بيبلوس" لتنقلهم للتجارة إما في بيبلوس (جبيل في لبنان) أو في بونت (الصومال). وفي الدولة الحديثة، فتح الملك الغازي تحتمس الثالث طريقًا رئيسيًا بين القاعدة البحرية في منف والموانئ الآسيوية. ويرى البعض أن قدماء المصريين هم الذي شجعوا الفينيقيين على ممارسة مهمتهم التاريخية كتجار بحريين.

ومنذ عصور ما قبل التاريخ، صُورت السفن كزخارف على الصخور والفخار، وكان الآلهة يعبرون السماء في العلا، في سفن الشمس، بينما كانت تماثيل معبوداتهم، على الأرض تسافر في محفات بهيئة السفن.

مارس المصريون القدماء الملاحة في البحر، والنهر، والبحيرات، والترع، منذ زمن موغل في القدم، فاتخذوا من نبات البردي مادة لصناعة قواربهم، التي كانوا يجوبون بها المستنقعات، ولصيد الأسماك والحيوانات، كما كان لديهم سفن جميلة مزودة بمقاصير تدفعها المجاديف للتنقل والتنزه والنقل والأخرى التي تدفعها المجاديف والأشرعة. وعبر العصور المصرية القديمة تطورت صناعة السفن والقوارب، فكانت هناك أحواض دائمة لصناعة السفن تستعمل أخشابًا محلية أو مستوردة من لبنان، وكان بوسع ترسانات بناء السفن المصرية القديمة أن تنزل إلى الماء سفنًا طولها 60مترًا أو أكثر.

وكان هناك تصنيف واسع، وتخصص دقيق، في نماذج السفن، فهناك سفن طويلة قلمّا ترتفع أطرافها، وتلك سفن نقل قصيرة ومقوسة عند طرفيها، لنقل الحجاج أو مواكب الجنازات، وغيرها صنادل لنقل الحبوب والأحجار، وسفن أخرى لنقل الماشية والخيول، وهناك السفن الحربية، التي اعدَّها الملوك لمقاومة القراصنة أو المعتدين وغير ذلك من السفن، إضافة إلى أصناف وأنواع من القوارب الصغيرة، وأهمها: قوارب الصيد، وقوارب التنزه، وقوارب التنقل والعبور في النهر، التي عادة ما تكون من البردي وتتميز بالخفة...وغيرها من أنواع القوارب. هذا بخلاف سفن الشمس الشهيرة، فقد كان للشمس سفينتان في البحر السماوي حسب معتقدات القوم قديمًا، وقد وجدت في بعض مقابرهم الملكية، مثل مركب الشمس اللتين عثر عليهما في حفرتين مسقوفتين عند قاعدة الوجه الجنوبي لهرم الملك خوفو، وعثر في قاع إحداها على بقايا سفينة مفككة، كاملة الأجزاء، من هيكلها إلى سقف المقصورة، مصنوعة من خشب الأَرز ومتصلة ببعضها بالحبال، ووصل طولها بعد ترميمها، وتجميعها، إلى حوالي 40 مترًا.

ويرى البعض أن مثل هذه السفن يمكن أن تكون سفنًا للانتقال إلى العالم الآخر، أو سفنًا جنائزية، تعمل بوجودها على استمرار فاعلية الطقوس، أو سفنًا للذهاب لاستعادة الحياة في الأماكن المقدسة. وتذكر قصة "الملاح الغريق" الذي تحطمت سفينته التي كان على ظهرها، وكان طولها يبلغ 120 ذراعًا (60 مترًا)، وعرضها حوالي 40 ذراعًا (20 مترًا)، ويتألف طاقمها من 120 رجلًا من خيرة البحارة في مصر.

وتوجد مخطوطات عن توزيع العمل في ورش صناعة المراكب، وسجلات رحلات السفن، وتعاملات تجارية وقوائم بضاعة مستوردة أو مصدرة، وكذلك وثائق أحكام قانونية. علاوة على ذلك هناك رسومات بارزة على جدران المعابد لمراكب واستخداماتها في الملاحة على النيل. وكذلك وصف لعدة طقوس دينية كان قدماء المصريين يحتفلون ويقومون بها.

وخلّف المصريون القدماء الكثير من نماذج السفن والقوارب الصغيرة، وعليها بحارة مصنوعة من الفجار أو الخشب أو المعدن أو العظام، كما عثر على مراكب بالحجم الطبيعي كانت تدفن مع المتوفي لخدمته في الحياة الآخرة (قوارب الشمس)، كما سجلوا رسومات جدارية تفصيلية لأنواع وأشكال منها مختلفة، بتصميماتها، وتفصيلاتها ومعداتها، على صحائف البردي وعلى جدران المقابر والمعابد.

وعثر على مراكب وأجزاء مراكب، مثل سفينة خوفو من الدولة المصرية القديم بجوار الهرم الأكبر، ويبلغ طولها نحو 44 متر ًا. كما عثر على الكثير من نماذج مراكب جنائزية من عهد الدولة المصرية الوسطى.

ويحتفظ المتحف المصري بالعديد من هذه النماذج الخشبية، وكذلك متحف المتروبوليتان، ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية وعدد من المتاحف الأخرى. وأغلبها نماذج مراكب جنائزية من عهد الدولة الوسطى. ومن أفضل هذه النماذج ما عثر عليه في مقبرة النبيل "مكيت رع"، عهد الأسرة الثانية عشرة، في وقت مبكر من عهد أمنمحات الأول، حوالي 1931-1975 ق.م.

المقبرة، تحمل رقم TT280، وتقع في القرنة، وهي جزء من مقبرة طيبة، هي مكان دفن النبيل المصري القديم "مكيت رع"، الذي كان مستشارًا ومسؤولًا رئيسيًا في عهد منتوحتب الثاني، ومنتوحتب الثالث، وربما أمنمحات الأول أيضًا، وذلك خلال الأسرة الحادية عشرة، عصر الدولة الوسطى.

وهذه المقبرة تمَّ اكتشافها عام 1895م، وتبين أنها قد تعرضت للنهب في العصور القديمة، ولكن عندما أعاد حفرها الأثري الإنجليزي "وينلوك" في عام 1920م، اكتشف غرفة هادئة تحتوي على عدة نماذج تغطي الحياة اليومية في ضيعة الوزير "مكتي رع".

تحتوي مقبرة "مكيت- رع" على العديد من النسخ الخشبية المقلدة، التي تمثِّل الأنشطة اليومية والحياة في مصر القديمة، إلى جانب عدد من التماثيل المصغرة من السفن والماشية، والنماذج المصغرة من المباني والحدائق. من هذه النماذج: زورقان بينهما شبكة للصيد، قارب بمجاديف، مركب شراعي مع كابينة من الخوص، منزل في حديقة، متجر النجار، ورشة للغزل والنسيج، التفتيش على الماشية، كل هذا وغيره في المتحف المصري بالقاهرة.

 

نموذج خشبي لمركب صيد من مقبرة "مكيت رع"، الدولة الوسطى، الأسرة الـ 12، عهد امنمحات الأول (حوالي 1975-1981ق.م تقريبًا)، متحف المتروبوليتان في نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن النماذج التي يقتنيها متحف المتروبوليتان للفنون، نيويورك: قارب تجديف مع موسيقيين، قارب عليه رجال يصطادون أسماكًا، امرأة تقدم القرابين مع الطعام، أربعة ذكور وإناث يقدمون القرابين في الموكب، الماشية في الحظيرة، المَسلخ، مخزن للحبوب، صانعي الخمور والخبازين، منزل في حديقة.

ومن أجمل هذه النماذج نموذج لمركب، أو قارب شراعي من الخشب، يُرى عليه مكتري وابنه، أو رفيقه، وهما يراقبان الصيادين من مأوى خفيف مصنوع من القصب المنسوج ومزين بدرعين كبيرين في المقدمة، يقدم له رجل وامرأة مجموعة من الطيور تم اصطيادها من قبل، كما تقدم المرأة بيدها اليمنى بطة كبيرة، في حين نجد صيادًا راكعًا في وسط السفينة يقوم بإزالة الحربة من سمكة تم اصطيادها من النهر بينما من اصطادها واقف يمسك بالحربة، وهناك صيادون أخرون يصوبون حرابهم على الأسماك في النهر.

عثر على هذا النموذج عام 1920م، استخدم في صناعته، وصناعة مفرداته، خشب مجصص ومطلي، وكتان، وخيوط كتان. أما أبعاد النموذج مع دفة ومجاديف فيبلغ طولًا= 121.7 سم؛ وارتفاعًا= 34.3 سم؛ وعرضًا= 30.6 سم.