الجمعة 19 ابريل 2024

حديث النفس.. «حديث غير مسموع»

مقالات29-9-2021 | 17:21

الحديث غير المسموع مثل الحب من طرف واحد.. فمن يضن بالحديث، يضن بالحب والمشاعر.. فكم من كلمة أسرت القلوب والمشاعر وأراحت الصدور.

فالحياة ساحة كبيرة لأناس يتحدثون، وآخرون صامتون، فالحديث مسموع والصمت محسوس.

الحديث يعنى وجود طرفين له قد يتحول لمعركة وعداء، وقد يحقق الهدف منه بالخروج برؤى مثمرة، وقد تكتشف أنه لم يسمعك أحد فقد كان حديثك لمجموعة من الصم، فقدت فيه أدوات الإشارة لإيصال حديثك لهم فضاع جهدك ووقتك وربما عمرك!

شرط الحديث أن يتم بين طرفين المفروض أن يتحدث أحدهما ويسمعه الآخر، حتى وإن كنا فى جماعة فالمفروض أن يستمع الآخرون لمتحدث واحد، فهذه قواعد التحدث المنطقية، ولكن قد تحدث حالات كثيرة يجد المتحدث تعثرا فى إيصال كلامه لآخر أو لآخرين، ومن الطبيعى أن الإرادة تكون لمن لديه المبادرة بالتحدث يقابلها رغبة تصل لإرادة مماثلة فى بعض الأحيان لمن يوجه إليه الحديث.

ولكن للحديث شروط وقواعد فمن العبث أن يتبنى المتحدث وجهة نظره ويدافع عنها طوال الوقت بل يجب عليه أن يتبنى أو حتى يتعرف على وجهة نظر المتحدث إليه، وإذا ما حدث تجاهلها فإنه بالتأكيد سيكون حديث غير مسموع، فيتحول لإملاء يرفضه الطرف الآخر، وحينها سيكون حديثا غير مسموع الصمت أفضل منه!

وحديث آخر فيما نفعله مع من نريد أن ننصحهم فتجد نفسك تجتهد فى تقديم حديث مقنع للطرف الآخر الذى أردت أن تقدم النصح له حرصا منك على أن يأخذ به، ولكنه قد يكون حديثا غير مسموع إذا ما افتقد شروط تقديم النصيحة، فيجب أن يطلب الشخص النصيحة أو على الأقل أن يكون مهيئا نفسيا لسماعها، مثلما هو الحال فى تربية أبنائنا فنجد أننا من شدة حرصنا عليهم نلقى على أسماعهم النصائح المعبرة عن تجاربنا طوال الوقت ناسين أنهم خلقوا مغامرين مملوئين بطيش الشباب الذى يعميهم عن أى نصح، ولكن لشدة حرصنا عليهم نريد ألا يخطئوا، فنملى عليهم النصح ليل نهار، فيصبح حديثا غير مسموع خاصة فى عمر المراهقة، حتى إنهم يتهمون آباءهم بأنهم من عصر قديم لا يصلح الآن.

صراع الأجيال الذى يحتاج من الكبار أن يطوروا أنفسهم وثقافتهم حتى يخترقوا هذا العالم الجديد بسلام فيصبح حديثهم مسموعا، وربما أتى الابن لوالديه يطلب النصيحة وهذا أفضل أوقات النصح.. وربما أتى وهو بداخله عقيدة بألا ينفذ غير ما عقد العزم عليه، ولكنه يريد أن يسمع بدائل عديدة يختار من بينها والفاصل هنا فى جدوى الحديث هو نضج الطرفين حتى يصبح حديثا مسموعا.

وقد يصبح الحديث غير مسموع بأن يتطوع الناصح بدون أن يؤذن له أو أن يقدم النصيحة فى العلن فيعرى أخطاء وعيوب الطرف الآخر على الرغم من حسن النية، ولكن للنصح آداب وقواعد إن تخطتها فحديثك غير مسموع.

وحالات أخرى موجودة بيننا بأن تفرض الإرشادات والتعليمات بشكل فوقى لطرف أقل من الممكن أن تخدم مصالح مقدمها فيرى من توجه إليه أنها ضد مصالحه فيرفضها أو يهرب منها.. فيعتبر نفسه انه لم يسمع شيئا، فيذهب صاحب الحديث ويعود ليفتش عن التنفيذ فيجد أنه لم يسمع حديثه.. وفى هذه الحالة إما يعلن أنها غير مجدية له سببا لعدم التنفيذ أو يتهرب من الإجابة حسب سلطة وسطوة مقدم الحديث.. المهم أنه غير مسموع ولم يحقق أثره!

وفى حالات أخرى، يتعالى المتحدث بتوهمه أنه الأفضل وقد يكون كذلك، ولكنه بلغ من الغرور والنرجسية فلا يبذل جهدا فى خلق تحاور مع الطرف الآخر على اعتبار أنه يقدم القول الصحيح ناسيا اختلاف حالات سماعيه فى الذكاء أو طريقة التفكير، فيفقد حديثه صداه ويصبح كما يقولون «يؤذن فى مالطة».. فكم من قضايا شديدة المساس بحياتنا لم نستطع أن نحقق أى تقدم أو اصطفاف فيها بسبب مقدم الرسالة أو حتى بسبب الرسالة نفسها مثلما الحال فى فشل كثير من حملات التوعية لمشكلات مهمة بسبب وجود فجوة بين المتحدث والمستهدف الذى يتحول عنها بل قد يصل به من العدائية ضدها فينعزل عنها فيصبح حديثا غير مسموع.

وكثير من المتحدثين من يتحدثون عن قيم ومثل عليا يعلم الموجه إليهم الحديث أنه خال من هذه الخصائص وإنما يطالبهم بتبنى هذه القيم وعلى الرغم من أنها نبيلة لكنها صدرت من شخص غير نبيل فتاريخه وصفحته لا تسمح له بالحديث عن هذه القيم النبيلة!

وهنا يفقد الحديث تأثيره حتى لو كان ممثلا فى رواية وأفلام وكان دوره منحصرا فى أدوار الشر وفجأة يظهر على الشاشة يتحدث عن الخلق القويم وعلى الرغم من أنه تمثيل فى تمثيل لكن الصورة الذهنية هنا لعبت دورا أساسيا فى جعل حديثه غير مسموع، ومن منا لا يخلط بين التمثيل والواقع فالكثير والكثير جدا من يقرن أشخاصا بأدوار معينة رآهم فيها أبطالا للشر أو الخير وقد تكون شخصيتهم فى حياتهم على عكسها لكن هذه صورتهم الذهنية التى قد يستفاد منها أو العكس.

الحديث والكلام أمر له تأثير فى كل العصور وفى كل الأوقات وهو ما فطرنا الله عليه وأصٌله فى كتابه العزيز حتى إنه قال إن الكلمة الطيبة مثل الشجرة الطيبة وأمر باختيار أفضل الحديث حتى تؤثر فى القلوب والعقول.. فأمر سيدنا موسى بأن يذهب لفرعون ويقول له قولا لينا على الرغم من جبروت فرعون فقد يلين قلبه لذكر الله.. ونحن نتوجه لله فى دعائنا وصلاتنا بأفضل الكلمات وأسماء الله الحسنى ونثنى عليه وعلى رسول الله.. وأكثر من ذلك فندخل الإسلام بنطق الشهادتين. وكذلك الجنه إذا ما وفقنا الله بنطقها عند الاحتضار.

فللحديث الطيب أدب وخلق فقد نهانا الله عن التفحش فى القول والتنابز بالألقاب واللغو والنميمة فلا خير فى هذا الحديث.

إذن الكلام الطيب يَؤسر القلوب.. حتى فى القصائد والغناء وتجد الموسيقى غذاء الروح والكلام الطيب غذاء العقل والقلب والروح، حتى إنه فى أحد أحاديث الفنان عبدالوهاب حينما مدحه أحد المذيعين بأن ألحانه العظيمة سبب فى نجاح الأعمال الغنائية فأكد أن اللحن الجيد لا يشفع لكلمات هابطة فالكلمة أساس النجاح.

بدليل أننا الآن نشكو من هبوط الذوق العام بسبب تدنى كلمات الأغانى وانتشار الكلمات المسفة والمبتذلة فى الأعمال الدرامية فتفقد القوة الناعمة تأثيرها وتجد صاحب الذوق الرفيع يظل يبحث عن الأعمال الخالدة وإلا ماذا جعلها خالدة؟ لأنها راقية تعيش وتبقى صاحبة حديث مسموع.

ومن الممكن أن يكون حديثك غير مسموع للآخرين ولكنه مسموع لنفسك وحدك مثل حديثك فى المرآة، فهو الحديث الواضح الصريح المخلص أيضا، فالشخص مهما كان مخادعا لمن حوله لا يستطيع أن يخدع نفسه مهما بلغ من الاحتيال فهو صريح مع نفسه يتحدث إليها بخطط ويواجه مصاعب تحقيقها بحديثه إليها، وقد يواجه الإنسان مخاوفه بكلمات يشجع فيها نفسه بألا يخاف ولا يتخاذل.. ومن منا لا يشحذ نفسه قبل أى مواجهة بكلمات تدعمه وتقويه، فأنت أعلم بنفسك وبنقاط ضعفها وإن لم تسيطر عليها تماما فلن يكون لما تقوله وتفعله أى صدى.

والحديث نكرره على أنفسنا فى شكل حديث داخلى ربما يتحول لحديث خاص مع النفس بصوت مسموع ومن منا لا يكلم نفسه قد يظن من يراه فى خلسة أنه أصيب بالجنون لكنها لحظة خاصة جدا لا يفعلها الشخص إلا إذا تأكد أنه وحده من يسمع نفسه.. وقد يصبح مسموعا للطرف الآخر بعد نجاحه داخله.

وهناك حالات أخرى للحديث ولكنها أكثر براءة وحيوية مثل تلك التى عند الأطفال فكثير من الأطفال ما يتحدثون إلى أنفسهم وبمرور الوقت والنضج يتخلى الإنسان عن براءته فيصبح لديه من الأسرار وربما من العيوب ما لا يحب أن يطلع عليه الآخرون فيتحول إلى حديث مسموع وغير مسموع!!

وحديث آخر نسمعه ولا نلتفت إليه بل نعتبره دليلا على المرض فقد يصاب الفرد بالحمى ويظل يخرف ويتفوه بكلمات غير مفهومة وربما تعبر عن أمور فى عقله الباطن ولا يعتد بها حتى وإن كانت اعترافات جاءت تحت تأثير مرض أو مخدر فهو حديث غير مسموع.

لا شك أن الحديث والفضفضة أمر صحى وقد يعتبر طريقة علاج لأناس أصابتهم الوحدة بالخرس والكبت فذهبوا للأطباء للحديث كعلاج لهم ومنها الجلسات الجماعية وفيها يتحدث كل مريض عن تجربته فيها المستمع ينسى شكواه ويتوحد مع المتحدث ويبدأ فى حل مشكلته حتى يستعيد ثقته بنفسه.. هنا حديث حاول أن يكون مسموعا لنسمع أنفسنا ونواجهها.

وكم من أحاديث كشفت خطط صاحبها بل ترتفع لتكشف عن خطط دول فيتحرك الآخرون والمناوئون بناء عليها.. وكم من زلات لسان كشفت ما بمكنون الأشخاص وما عقدته الإيمان حتى إن الله بشر سيدنا محمد بكشف المنافقين بإخراج أضغانهم فى زلات لسانهم، لذلك علينا اختيار ألفاظ الحديث بعناية.. وإن لم يكن للحديث أهمية فلما أنزل الله الرسالات المكتوبة المحفوظة والأنبياء يتحدثون لهداية البشر؟ حتى إن الله وصف إعراض الكافرين عن سماع الحق بأنهم يستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم فى آذانهم ليصبح حديثا غير مسموع.

الحديث ألفاظ.. فكم من مشاعر جرحت بحديث غير مقصود، الحديث غناء.. بكاء.. صمت.. همهمة.. صراخ.. الحديث قد يكون بدايته حبا وختامه عشقا.. أو كرهًا.. الحديث صدى.. الحديث بوح والبوح لابد وأن يلتقى بمن يسمعه ويفهمه.. الحديث المسموع أبدا لا يكن من طرف واحد.