الجمعة 19 ابريل 2024

عصر ما بعد الفوضى.. لماذا يشوهون الرموز؟

مقالات16-9-2021 | 13:05

جزء من مخطط الفوضى التي تتوجه إلى تحقيقها الجماعات الإرهابية الرجعية يتمثل في قتل الرموز الأدبية والثقافية الحقيقيين، والقضاء على تاريخهم، ولنا أن نتصور ونتخيل أن هذا النهج تبعه الظلاميون أعداء الإنسانية في كافة العصور، وعلى سبيل التمثيل نجد في التراث الأدبي القديم اعتداء بالتشويه ومحاولة لهدم تراث الشاعر العباسي المجدد العظيم أبي نواس الحسن بن هانئ.

 والحقيقة أن هذا تم من كثيرين غيره مثل بشار بن برد والحلاج وابن عربي وأبي العلاء المعري وغيرهم كثيرين ممن يمثلون رمزا للتنوير الفكري والتجديد في التخييل والابتكار في الموضوعات وفي الفهم والقضايا ومعالجة الإبداع.

 كثيرون من المبدعين الكبار تم تشويههم بأن يتم اتهامهم بأنهم من الفاسقين الماجنين والملحدين الذين ينكرون الآخرة وغيرها من الاتهامات التي تطول.. الحقيقة كلها افتراءات الهدف منها ألا تتم قراءة تراث هؤلاء الشعراء تحديدا لأنهم محفزون للعقل والفكر وتصور أعداؤهم من راجلة الحنابلة مثلا أن هؤلاء قد يؤدون إلى تمرد المسلمين على دينهم، وأنهم دعاة للزندقة والفسق والمجون، والحقيقة أن العالم العربي والإسلامي بدأ في الانهيار الحضاري والإنساني وضعف تماما حين ضعف حضور العقل والعقلانية وبدأ التضييق على الفكر والاجتهاد حتى تم غلق أبوابهما تماما.

هذا الذي كان في العصور القديمة فعلته حرفيا الجماعات المتطرفة في العصر الحديث ولكن باحتراف أكبر وبخبرات وتدريب وصنعة كبيرة في التشويه، لقد أضاف لهم الزمن خبرات كبيرة، لكنها خبرات مع الأسف شريرة وهدامة ولا تؤدي إلا لمزيد من التخريب والانهيار.

من أبرز الرموز التي تم تشويهها في أدبنا الحديث ثلاثة من أعلام الأدب العربي بل ربما من أعلام الأدب في العالم ولكل منهم بصمة كبيرة والثلاث هم أكثر الذين ترشحوا لجائزة نوبل وأحدهم فاز بها بالفعل، أعني هنا الثلاثة الأبرز في تاريخنا الأدبي الحديث وهم طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، أحدهما مؤسس النقد الحديث والذي طبعه بالطابع العلمي والمنهجي ورسخ النقد الحديث ومهد لنا فيه طريقا رحبة جدا، بالإضافة إلى إبداعه السردي العظيم وأعماله التي كانت تحولا في السرد التاريخي أو الرواية التاريخية والدينية وكذلك رواية السيرة الذاتية، وتوفيق الحكيم هو أبو المسرح في الوطن العربي وواحد من كبار الروائيين كذلك وفتح بابا عظيما ومختلفا في الإبداع السردي ولا يمكن إنكار إنتاجه الكثيف، ونجيب محفوظ طبعا جهوده في الرواية يعترف بها الغرب وأعلام الرواية في العالم وجاء إلى زيارته في مصر كبار الروائيين العالميين من ثقافات أخرى تقديرا لقيمته ومكانته وهو الأوسع ترجمة لدى الغرب ويكاد يكون المبدع الأكثر ترجمة والأعلى صوتا في العالم ووصل باللغة العربية إلى ما لم يصل بها أحد قبله من النفوذ والانتشار والتعريف بنا وبعمق آدابنا وثقلها فكريا واجتماعيا وقدر التطور الفني.

هؤلاء الأعلام العظام هم ما نعيش بإنتاجهم وعطائهم حتى اللحظة، ذلك لأنهم ليس فقط تركوا ميراثا عظيما، ولكن لأنهم كانوا قدوة لغيرهم من الكتاب والمفكرين، وظلت مدرسة طه حسين قائمة في النقد والإبداع ودراسة التراث، مثلما كانت مدرسة توفيق الحكيم في المسرح الاجتماعي والفكري والذهني، وكذلك مدرسة نجيب محفوظ في الرواية التي يستلهمها كثير جدا من الروائيين العرب ومازال في نظرهم أستاذا عظيما يكتبون وهم يضعونه نبراسا أمامهم. يرمزون للتجدد والعطاء والإبداع الفكري والتخلص من الجمود والموات، يرمزون للحيوية والالتحام بالواقع ومجابهة أبرز القضايا، يرمزون للتأثير والفاعلية والتأثير والنفوذ برغم مرور السنين، والأساس أنهم رموز للتنوير ورموز للحضارة والانفتاح على الآخر وبث الأفكار الحيوية المتجددة لدى الشعوب العربية، مثلوا رموزا أيضا للاستقلال الوطني ومناصرة الهوية المصرية والعربية، وفي ظني أن كل هذه القيم لا يريدها الظلاميون والجماعات المتطرفة والرجعية.

الرجعيون أساس التبعية والهدم والانهيار والأفكار الوهمية التي لا صلة لها بالواقع، ولهذا فمن الطبيعي أن يبذلوا جهودا كبيرة لتشويه هؤلاء الثلاثة، طه حسين عاش حروبا ممتدة وحاولوا قتله معنويا أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة وهو على قيد الحياة ومازال ينتج، لكنه عاش بروح المقاتل الفكري دائما ولم يستسلم أبدا ولم يمض وراءهم في حواري العداء المظلمة، ظل يركض في طريق العطاء مثل عداء عنيد يعرف طريقه جيدا ولا يتشكك فيه. لم يتشتت ولم يستسلم، قد يكون لجأ لتطوير أسلوبه أو حاول أن يصل إلى الفكرة نفسها بطرق مختلفة لكنه لم يستسلم، هو أول من ساءل التراث ونظر فيه بكل مقاييس العقلانية والمناهج العلمية ورتب أوراقه وقضاياه وظواهره وقسم العصور وتأمل التراث تاريخيا واجتماعيا على نحو عميق وجعل من الدرس التراثي علما حديثا وليس مجرد استعادات عشوائية أو تنقيب عن النصوص وتحقيق لها.

كانت اتهامات طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم متنوعة وكلها في إطار الاتهامات الأخلاقية والدينية ولا يمكن لأحد أن ينسى ما قيل ويقال عن طه حسين منذ كتابه في الأدب الجاهلي ورغبته في هدم التراث وإنكار القرآن وكلها أمور غير حقيقية ولم تكن مقصودة أبدا وأنه برغم رسوخ طرحه عن الشك والانتحال واستقرارها في الدرس الأدبي لكن لم يشكك أحد في القرآن أو يكفر بالإسلام وهو نفسه كان محافظا وحج إلى البيت الحرام بحسب ما يذكر وبحسب ما هو ثابت ومعروف، والأمر نفسه من الاتهامات بالنسبة لنجيب محفوظ الذي حاولوا قتله وتم الاعتداء عليه بالفعل، وتوفيق الحكيم لا ينسى أحدنا قضيته الشهيرة وصراع الشيخ الشعراوي معه على صفحات الجرائد بعد مقالاته في الأهرام "حوار مع الله" وما كان من اتهامات الشعراوي نفسه له مؤلبا الجماهير عليه، وكثيرة هي الاتهامات من هذه الجماعات وأنصارها ورجالها.

 الطريف أن هذا الهجوم مازال مستمرا حتى اليوم وربما يشتد في ضراوته وعنفه ويزداد مع خيبة هذه الجماعات وعجزها عن تحقيق التقدم في مشروعها الفاشل، فكلما أخفقوا وأدركوا قدر الخيبة تجدهم يرجعون إلى هؤلاء الرموز لهدمهم ويزداد مقتهم لهم وعنفهم ضدهم وضد تراثهم، وكأنهم استوعبوا- وهم نادرا ما يستوعبون شيئا عميقا – أن هؤلاء الرموز التنويريين هم الذين يقفون عقبة أمام انتشار الرجعية في المجتمع أكثر من هذا وكأنهم أدركوا أن بطل العقلانية ومرسخها في النقد الأدبي والدرس التراثي هو الذي يحول دون الرجعية مع بطل السينما العربية وأستاذها الأكبر في التأليف وهو نجيب محفوظ الذي أمدها بعشرات الأعمال المهمة التي مازالت فاعلة وممتدة بتأثيرها في نفوس الناس، وكذلك بطل المسرح توفيق الحكيم بما يمثل المسرح من العقلانية والجدل والطابع الديالكتيكي القائم على السؤال والبحث والنظر والتأمل.

هنا يشتد غيظ هذه الجماعات وحنقها وغلها من الرموز التنويرية العظيمة فتكون الشراسة المتجددة، لأن هؤلاء الرموز هم بمثابة مؤسسات حقيقية مؤسسات تعليمية وتثقيفية ومؤسسات للقوى الناعمة والتعريف بنا عند الآخر وكلما كانت الدولة المصرية ذكية يجب عليها الحفاظ على هذه الرموز والحرص على تراثهم وتحاول العمل دائما على تجديد حضورهم وتعظيم الإفادة من تراثهم الأدبي والإبداعي وتجددهم، ولا يعني تركيزي على هؤلاء الثلاثة أنه لا يوجد غيرهم ولكن لأن الحرب ضد هؤلاء مازال مستمرة وبشراسة وبدعاوى مختلفة ولأن هؤلاء هم الأبرز وهم المؤسسون ويستحقون المزيد من الوفاء لدورهم وإطلاق الجوائز باسمهم، وإني لأعجب كل العجب ألا يكون في المجلس الأعلى للثقافة المصري جائزة باسم العظيم طه حسين وألا تكون هناك جائزة ثابتة للمسرح باسم توفيق الحكيم.