الخميس 25 ابريل 2024

عصر ما بعد الفوضى.. وتحديات مصر العاجلة

مقالات26-8-2021 | 14:45

ليس من الشطط أو المغالاة تسمية فترة الاضطرابات المصطنعة وحالة التثوير المتعمد بعصر الفوضى، ذلك لأنها بالأساس لم تكن مجرد رغبة فى صناعة فوضى سياسية وحسب، بل إن هذه الفوضى السياسية والرغبة فى هدم الدول فى المنطقة كان معلوما ومخططا لكونها يجب أن تتأسس على فوضى شاملة فى كافة مناحى الحياة؛ فوضى فى الأخبار والمعلومات، فوضى فى التعليم والثقافة والفكر والتحريض والشائعات، وهدم النخبة أو تزييفها أو استغلالها أو خرقها أو تشكيل نخب موازية فاسدة واستمالتها أو برمجتها وفق متطلبات هذا المشروع الكبير الذى أرادوا له أن يكون مشكلا لمصير منطقة الشرق الأوسط وصابغا لهويتها وهوية شعوبها ودولها.

 

يجب أن نتأمل هذه الحقبة التى مازالت تفرض ظلالها حتى إن نجت منها بعض الدولة وعلى رأسها مصر، ونتأمل تبعاتها وآثارها، ونلاحظ مثلا أن مصر اتخذت منها دافعا للمقاومة والانطلاق من جديد نحو استفاقة حضارية قوية تجعلها تستعصى فى المستقبل على مثل هذه المخططات التخريبية، وفى تصورى أن الدوافع الأساسية لدى القيادة السياسية فى انطلاقنا نحو الجمهورية الجديدة هو هذه الرغبة فى تجنيب مصر هذه الزلازل السياسية الاصطناعية والمخططات الخارجية ومنحها الحصانة الطبيعية ضد محاولات الهدم وزعزعة الاستقرار. ولا تنسينا نجاتنا من هذا المخطط أن نؤدى فريضة التأمل والفكر لما جرى ونحاول استيعابه بشكل شمولى ونحيط به تصورا وتخيلا ونفهم كافة مفردات هذه الفوضى وما قامت عليه، ثم توقع سيناريوهات لما بعد هذه الفوضى وتبعات الزلزال السياسى الذى عاشته المنطقة بوصفه الزلزال السياسى الأطول.

 

معروف طبعا أن هذه الزلزال قام بالأساس على استعانة واسعة وأساسية بتيارات الإسلام السياسى وتنظيماته وهذه الجماعات المتجذرة فى المجتمع، مستغلا وضعا ثقافيا ومعرفيا مترديا تعيشه أغلب مجتمعاتنا. لكن هذا الأمر له أدوات وأركان أخرى قام عليها أبرزها التضليل الإعلامى وفكرة الشائعات وزعزعة الثقة بين الأنظمة الحاكمة والشعوب، وفى هذا السياق مثلا يمكننا تأمل ما جرى مع الإعلام الرسمى للدولة المصرية، بالتحديد التلفزيون المصرى وقنواته التى لم يكن الشعب المصرى فى السابق يصدق غيرها، ثم تتحول فى نظر الكثيرين إلى النقيض، ويصبح من الطبيعى لدى الأغلبية السعى نحو مصادر أخرى أكثر تصديقا، فنشأت فكرة المواقع الإلكترونية والمنصات وتكاثف حضور الجماهير عبرها وأصبحت هى الإعلام البديل بنسبة هيمنة كبيرة كما هو حاصل فى الوقت الراهن.

 

إن أبرز الأضرار الناتجة عن هذه الفوضى يمكن تلمسها فى أحوال النخبة المشتتة والضائعة أو المفتقدة للبوصلة، ويمكن رصد هذا من دراسة أوضاع مقالات الرأى فى أبرز الصحف المصرية ومحاولة الاشتغال عليها بشكل تحليلى من حيث المصداقية والدقة فى القراءة والمعايير والمنهجية التى تقوم عليها، كما هو الحال فى أوضاع الأدباء والأدب وظواهره المفتعلة مثل الأكثر مبيعا والترويج لأعمال ليست سيئة وحسب بل قد تصل إلى درجة الفساد الفكرى وربما تصل لأن تكون عاملا من عوامل التخريب والتزييف الفكرى والمعلوماتى والجمالي، وهذه من الأشياء الطريفة وبخاصة فى الأدب الذى أصبح من معجزاته أنه يكون للهدم والتشويه والتخريب بدلا من أن يكون واحة للجمال الإنسانى والتنوير الفكري.

 

ولكن ما يلفت الانتباه بقوة هو هيمنة الأكاذيب والشائعات والتضليل على هذا الإعلام الجديد المهيمن، والتمثل فى مواقع التواصل الاجتماعى والمنصات وكثير من المواقع وبخاصة ذات التمويل الخاص غير المعلوم بدقة أو تلك التى دأبت على طبخ السم فى العسل حتى أصبحت به خبيرة، أو الحكومية التى اخترقتها الخلايا النائمة بشكل منظم على مدار سنوات طويلة. عصر الفوضى هو عصر هيمنة الأكاذيب والشائعات، وإن لم تنتصر الفوضى سياسيا ولم تقدر على التكملة فإن تبعاتها من هذه الفوضى المعرفية والمعلوماتية والإخبارية مازالت قائمة بقوة وتمارسها دورها بشكل ممنهج، وهو ما يدفع أى عاقل للتساؤل، هل ما كان سياسيا هو مجرد محاولة، وأن المشروع لم ينته أو يسدل عليه الستار؟ وأن هناك نارا كامنة تحت الرماد تنتظر النفخ فيها أو تنتظر الرياح المواتية التى تجعلها تشتعل؟

 

فى تقديرنا الشخصى أن النتيجة ستأتى طريفة وغريبة وبخلاف كافة التوقعات، ذلك لأن احتراف الكذب وبث الشائعات سيجعل هذه الأنماط الإعلامية الجديدة تفقد مصداقيتها وتقتل نفسها بنفسها. مثلما قتلت النخبة الفاسدة نفسها بنفسها، ذلك لأن الشعب البسيط وبالفطرة قادر على استكشاف الخلل وإدراك الفساد مهما كان محدودا فى نقده أو مساحة إعمال العقل أو ما يتمتع به من فطرة عقلانية. إن النخبة التى تقول كلاما أو تطرح طرحا معينا ولا يجد منه شيئا على أرض الواقع، بأن تؤكد مثلا على أن مصر فى خطر فى ظل التنامى العقارى وأن السياسات الاقتصادية التى وضعتها الدولة بشأن تعويم الجنيه قبل أربع سنوات خاطئة أو غيرها، ثم يجد على أرض الواقع شيئا مختلفا، هذه النخبة حتما ستسقط فى نظره وسيبتعد عنها تدريجيا مع الوقت. ليكون فى النهاية غير قادر إلا على تصديق ما يمنحه الفعل، سيقترن القول مرة أخرى بصاحب الإنجاز والأفعال، وستعود مرة أخرى القوة للبيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة أو المؤسسات وستعود مرة أخرى قوة التلفزيون الرسمى أو المنصات المعروف تبعيتها للحكومة.

 

ولهذا نجد أن البوابات والمواقع الإلكترونية للوزارات والهيئات هى الأكثر مصداقية، وأن كثيرين أصبحوا يشككوا فى كثير من المواقع غير واضحة الهوية أو غير المسندة إلى كيان واضح. وهذه نتيجة طبيعية لحال التشبع بالكذب وفوضى المعلومات وطوفان التضليل المعرفى الذى ساد فى السنوات الماضية. الأمر يمكن ببساطة شديدة أن يشبه حالة التلاعب بين الجسد والفيروسات التى تغزوه، وقدرة الجسد بعد فترة على أن تكون له تحصيناته ودروعه التى تحد من تأثير هذه الفيروسات والأمراض الخطيرة.

 

لقد عاشت مصر جائحة من الفوضى المعرفية والمعلوماتية والتضليل الإعلامى الهادف لتثوير الجماهير وخلق حراك مفتعل وبث أفكار هدامة، ويمكن أن نلاحظ هذا فى بعض الصفحات والمنصات التى احتفت أخيرا باستيلاء طالبان على الحكم فى أفغانستان وتعاملت معه بوصفه نصرا عظيما، وغيرها الكثير من الظواهر، وبخاصة ما يتم من إشاعات ضد وزارة التربية والتعليم لعرقلة مشروعها الضخم فى تطوير التعليم وتغييراتها الجوهرية فى أساليب القياس والتقييم والامتحانات التى تقوم بالأساس على إعمال العقل وتشكيل العقل النقدى والابتكارى لدى التلاميذ. الخلاصة أن مصر ستنتصر وستواصل مسيرتها بكل قوة وستنضبط الأمور تدريجيا بعد أن يلفظ المجتمع ما بجوفه، وتقتل هذه الفوضى المعلوماتية نفسها بنفسها.

Dr.Randa
Dr.Radwa