الثلاثاء 16 ابريل 2024

فندق كتراكت القديم.. وخالتي منيرة كمبال!

مقالات25-8-2021 | 11:05

فى مشوارى الصحفى الطويل الذي بدأ في مؤسسة الأهرام عام 1980 ما زالت تلتصق بجدران ذاكرتي حكايات ومحتاجات وحلويات (على رأي عمرو أديب) ظلت "بنت بنوت" لم يقترب منها قلمي ولا حتى فكرت طوال سنواتى التى مضت أن أستعيدها أو أستعيرها من مخزون ذكرياتى إلا بعد أن شجعنى الصديق الناجح خالد ناجح رئيس تحرير بوابة دار الهلال، وألح  كثيراً أن أطلق سراح ذكرياتى، التي تصور بعض الأصدقاء بحسن نية أنها مذكراتى.

 

 

ما زلت أتذكر أول مرة أركب فيها الطائرة عام 1983 كصحفى تحت التمرين بمجلة المصور، كانت تلك المرة الأولى التي أسافر فيها إلى أسوان إلى أرض أجدادى، أخيراً مكتوب لى وأنا أقترب من الثلاثين أن أذهب لأول مرة إلى قريتى توشكى شرق فى النوبة الجديدة، مركز ناصر، عبد الناصر اللى بيقولوا أنه شتت شمل النوبيين لما شالهم هيلا بيلا من مكانهم ومطرحهم القديم قبل التهجير اللى كان بيطل على النيل وحطهم فى صحراء كوم أمبو اللى كانوا بيسموها وادى الجن !

 

كانت تلك أول مهمة صحفية خارج حدود القاهرة أخوضها، طبعاً كنت لسه (محرر ورور)، اختارنى المهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان والتعمير للقيام بتلك المهمة، مهمة كشف الحقائق والأسرار حول مشروعه الكبير لتنمية وتطوير بحيرة السد العالي، اللى الرئيس أنور السادات شطب على اسمها الأشهر "بحيرة ناصر".

رأى الأستاذ مكرم صديق الوزير الكفراوى الحميم أن أكون فى رفقة المحقق الصحفى الأشهر فى بر مصر أساعده وأتعلم منه، وفعلاً سافرنا صباح 25 فبراير 1983، أستاذى ومعلمى عبد التواب عبد الحى رحمة الله عليه صاحب الفضل الكبير فى نجاحاتى الصحفية فيما بعد.. بالإضافة إلى عمنا شوقى مصطفى سيدى وتاج رأسى كبير مصورى دار الهلال.. الذى ظل يرفض قيامى بمحاسبة القهوجى فى أسوان وفى القاهرة.. وحتى مات.. وكان دائمأ يعزمنا ولحظة الحساب يقول: عيب كده !

 

 

فى الطائرة كانت هناك مفاجأة فى انتظارى.. مضيف الرحلة كان الصديق الأنيق أحمد ممدوح.. دفعة 1977 كلية إعلام القاهرة والذى كان محط أنظار وإعجاب زميلات وزملاء الكلية ببدلة المضيف اللي كان ساعات ييجي بيها الكلية.. من شدة حبى واحترامى له واشتياقي لرؤيته بعد سنين طالت أخذته بالأحضان.. إزيك يا ممدوح.. إزيك يا سليمان.. وهاتك يا أحضان وسلامات وقبلات ضحكات بصوت عال.. وهنا قال لى الأستاذ عبد التواب: كفاية كده.. أنت كده ها تجيب لصاحبك جزاء، لأنه كمضيف جوي ممنوع عليه أن يتلقى قبلات من أى راكب حتى لو كان أخوه! آه يا أستاذ، هو علشان كده مقربش منى تانى، وأخذت منه زميلته المضيفة مهمة خدمتنا حتى هبطت الطائرة فى مطار أسوان.. معلش يا أبو حميد آسف أنى جبت لك جزاء.. آسف آسف يا أحمد يا ممدوح !

 

 

داخل صالة الوصول كان مدير العلاقات العامة بهيئة تنمية بحيرة السد العالي ومعه اثنان من معاونيه فى استقبالنا.. تماماً كما قال المهندس مصطفي مرعى رئيس الهيئة للأستاذ عبد التواب في اليوم السابق لركوب الطائرة.

 

 

 

كنت خايف موت من ركوب الطائرة.. وأصارحكم أنني تشهدت أكثر من مرة.. ومن المطار انطلقت بنا السيارات إلى فندق كتراكت القديم المشهور بأنه الفندق الذي نزل فيه أشهر الشخصيات والزعماء والملوك الذين زاروا أسوان.

 

 

بعد تناول الغداء في مطعم الفندق، جلسنا في شرفة الفندق  الشهيرة التي جلس فيها الداهية البريطاني الشهير ونستون تشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

 

في المساء حضر إلينا الدكتور مصطفي مرعي مرحبا بنا، صباح اليوم التالي كنا في مكتبه، حيث شرح لنا الرجل وكبار مساعديه خطوات تنمية وتطوير البحيرة، وكان مثيراً للدهشة أن نعرف أن أكبر بحيرة صناعية في العالم لا تنتج سوي 20 طنا من الأسماك سنوياً، نعم سنوياً.. تصوروا !

 

صباح اليوم الثالث نزلنا البحيرة.. وكانت المفاجأة الكبرى أن الكل في البحيرة يعمل لحسابه، هناك 8 جمعيات للصيادين وهناك مئات من مراكب الصيد المرخصة تبرطع ليل نهار، ودون رقيب أو حسيب، في كافة أطراف البحيرة.. القاصي منها والداني.. واكتشفنا ما هو أخطر.. هناك مافيا تصطاد الأسماك وتقوم بتهريبها، بواسطة عصابات موطنها الأصلي سوهاج وليس أسوان، إلي خارج البحيرة وتبيعها في السوق السوداء.. وكشف لنا د. مصطفي مرعي أن حصة تلك المافيا من أسماك البحيرة تصل إلى قرابة 60 طن سنوياً.. أي ثلاثة أمثال الرقم الرسمي لإنتاج البحيرة من الأسماك !

 

 

الغريب أن مافيا تهريب الأسماك تستأجر مئات المراكب من أصحابها الأصليين الذين ورثوا تراخيص هذه المراكب من آبائهم وجدودهم !

 

وطبعا أول ما جاءت الهيئة الجديدة بقت الدنيا نار نار.. هاجت وماجت مافيا الصيد وزعمائها الأشاوس الذين أحسوا بأن أيام تهريب الأسماك سوف تولي وأن مكاسبهم من تلك التجارة السوداء الممنوعة قانوناً سوف يكتب لها النهاية، وطبعاً طبعاً ما سكتوش، وحاولوا وقف عملية تنمية وتطوير البحيرة دون جدوى، لكن مين ده اللي يقدر يقف قدام الحكومة !

 

 

 

في مساء اليوم السابع كنا قاعدين في شرفة كتراكت زي كل اللي قعدوا عليها من قبلنا.. الملوك والأمراء والناس الكبرة.. الأستاذ عبد التواب عبد الحي أسطى التحقيقات الصحفية اللي اتعلمت منه الكتير.. وعمنا شوقي مصطفي أسطى تجسيد الكلمات بعدسته الفوتوغرافية.. رحمهما الله .. فجأة قال لي الأستاذ عبد التواب: سليمان بكرة (داي أوف).. أي أجازة من العمل.. لو عايز تروح البلد تشوف خالتك خد العربية، وأنا جاي معاك.. قالها عمنا شوقي.. عاوز أصور في توشكى وأبو سمبل وغيرها "من زمان قوي ما جيتش هنا."

 صحيت من الفجرية.. فرحان ومزأطط.. أخيراً هشوف خالتي "منيرة كمبال" التي لم أرها سوى مرة واحدة في بيتنا بمساكن زينهم، عندما ماتت أمي الحاجة "فاطمة كمبال" في مايو 1981، أخيرأ.. هروح قريتي توشكى شرق لأول مرة في حياتي بعد 30 عاماً هي عمري آنذاك في تلك الرحلة الشاقة.. اللذيذة !

 

سعيد السواق ابن الجزيرة دخل القرية الساعة 10 صباحاً، وقفنا قصاد أول بيت قابلنا.. أربعة نساء اتنين فوق التمانين والستين والتالتة أربعينية والأخيرة أصغر منها.. السلام عليكم لو سمحتم بيت منيرة كمبال فين؟ وقفت الأربعينية وسألت وهي تدقق النظر إلي وجهي: عاوزها ليه؟ أنت من مصر.. أنت إدريس ابن أخت الخالة منيرة.. قلت لا.. أمال مين أنت.. الصحفي؟ أيوه.. وهنا حدث ما لم أكن أتوقعه على الإطلاق.. وقفت النساء الثلاثة وأخدوني بالدور في حضنهم الدافئ وهات يا عياط ونحيب، وكلام ورطانة بالنوبي، للأسف لا أفهمها، وكأن أمي فاطمة كمبال لسه ميتة حالًا.. كأن أمى لم تمت في 7 مايو عام 1981 .

 

 

 

ركبت معانا السيدة الأربعينية السيارة.. شمال.. يمين.. على طول.. يمين خش شمال.. بس هنا.. لقيت خالتي منيرة قاعدة في حتة ضلة قصاد البيت زي كل ستات البلد ما بيعملوا.. هبت خالتي واقفة كمن لدغها عقرب.. سليمان ابن أختي المرحومة فاطمة ودخلنا مرة أخرى في وصلة بكاء ونحيب.. كل ده وعم شوقي.. شغال عمال يصور ويصور اللي بيحصل قدامه..

 

 

اتغدينا فراخ وحمام.. عبده شمبا ابن خالتي ما كانش موجود.. كان يومها في شغله بالمدينة الجامعية بأسوان.. أحمد شمبا ابن خالتي بس اللي كان موجود.

 

 

اتغدينا واتعشينا كمان وآخر اليوم سلمت على خالتي وأحمد شمبا.. يا سلام عليكي يا توشكي..أمي ماتت من سنة ونص.. ولكنهم في البلد كلهم  جاءوا إلى بيت خالتي يعزوني.. ذكريات ومشاعر وأحاسيس صادقة.. بجد حلوة.. حلوة يا توشكي.. حلوة يا بلدي !!