الثلاثاء 23 ابريل 2024

المناضل

مقالات10-8-2021 | 16:12

يمكن للممثل على خشبة المسرح تقمص أي دور سواء من عالم الشر أو الخير، يمكن أن يقوم بأدوار الخائن، الشجاع، الجبان، الأمين وبمجرد أن ينتهي دوره على المسرح يعود إلى حياته الطبيعية، إنسان عادي بداخله نسب من كل الصفات الخيرة والشريرة.

هذا في عالم الفن والتمثيل وخشبات المسارح التي ندفع مقابل مشاهدة العرض الذي يقدم عليها ونحن نعلم جيدًا أنه فن جميل يقوم به ممثلون محترفون.

لن نطالب الممثلين في حياتهم المعتادة أن يكونوا مثلا على نفس درجة الشجاعة أو الأمانة التي أدوا بها أدوارهم على الخشبة لأننا متأكدين أنها الشخصية التي يتقمصها الممثل وليس شخصه هو.

عند أهل الفن يتوقف التمثيل بنهاية العرض المسرحي، لكن هناك من يتفوق على الفن وأهله ويتلبس شخصية ليست من طبيعته ويحول حياته إلى عرض مسرحي كبير وأيامه التي يقضيها على هذه الأرض إلى خشبة هذا المسرح، أما الجمهور فهو نحن المساكين الذين لم نذهب لمشاهدة العرض بإرادتنا ولكن أجبرنا على المشاهدة عندما نقابل هذه النوعية من المتلبسين للشخصية.

أغلب المتفوقين على الفن وأهله ويقدمون عروضهم اليومية أمامنا يتقمصون شخصيات خيرة وقمة في الخير فهو لا يكتفي بأنه شجاع فقط، لكنه عظيم الشجاعة لا يخشي شيئًا أو يهاب مخلوقًا، أو هو الأمين الحافظ للعهد والوعد، ولماذا لا يؤدي شخصية الحكيم الورع ويقدم لك نصائحه المخلصة التي لو سرت وراءها ستجد نفسك في أعمق حفرة على هذا الكوكب.

يجب أن نعترف بأن كثيرًا من هؤلاء المتفوقين على الفن وأهله ويقدمون عروضهم المسرحية الزائفة يوميًا يؤدون أدوارهم ببراعة متناهية لدرجة أن الكثيرين منا يصدقونهم ولا يكتفون بالتصديق بل يعتبرونهم مثلهم الأعلى وأن كل ما يقوله هذا الممثل على مسرح الحياة بشخصيته المزيفة حقيقة، وما يلقيه عليهم من كلمات فارغة هي أمر يجب تنفيذه بلا نقاش.

بالتأكيد الأشخاص الأسوياء لا يمكن أن يتقمصوا أو يتلبسوا شخصيات زائفة وفي نفس الوقت هؤلاء الأسوياء يمتلكون عقلا ومخزونًا من الخبرة يستطيعون بهما كشف حقيقة ما يقدمه هذا الممثل المخادع والبارع في أدائه، لكن رغم العقل والخبرة ففي كثير من الأحيان يتفوق هذا المخادع ويقنع الجميع ولو لساعات بشخصيته الزائفة والتي تتناقض تمامًا مع شخصيته الحقيقية الرديئة في معدنها.

كان يمكن اعتبار ما يقدمه هؤلاء المخادعون أمرًا مسليًا يستحق السخرية منهم ومن تمثيلهم ولو أشفقنا عليهم ذهبنا بهم إلى طبيب أمراض نفسية ليخلصهم من أوهام الشخصيات التي تقمصوها، لكن في كثير من الأحيان يصبح ضرر هؤلاء المخادعين أكبر من السخرية منهم أو محاولة شفائهم بالذهاب بهم إلى طبيب الأمراض النفسية.

يتوقف حجم الضرر الذي يسببه هؤلاء المخادعون على مدي إجادة هذا الزائف للدور الذي يقوم به ونوعية ما اختاره من شخصية يؤدي دورها والأهم موقعه في المجتمع، تعطينا الحياة العملية قصص وأمثالا كثيرة على الكوارث التي تقع على رأس من يحيط بهؤلاء المخادعين بسبب هذا الخداع.

من ضمن هذه القصص والأمثال التي تطلعنا عليها الحياة العملية قصة أعرف تفاصيلها بحكم الصداقة والصدفة، جلس أمامي صديقي وهو ينفجر من الغيظ وتخرج منه الكلمات بصعوبة شديدة محاولا السيطرة على انفعالاته الغاضبة التي تسبق كلماته، ففي مكان عمل الصديق داخل شركته المرموقة قبل سنوات وصل واحد من هؤلاء المخادعين ولكنه يقدم أداءً عالي الجودة ونوعية مختلفة من الشخصيات، فهو يتفوق على الفنان العظيم زكي رستم الممثل ذو الألف وجه فقدم لجميع زملائه في هذه الشركة خلطة من الأداء على درجة لا يمكن مقاومتها من الإبهار، فداخل الخلطة السحرية المخادعة التي يحتال بها على الجميع هناك الشجاعة، الإخلاص، الأمانة، الصدق .

أمام هذا الأداء المتقن في الزيف أطلق أحد المنبهرين بزميلهم ذو الألف وجه عليه لقب المناضل لأنه الوحيد الذي يتصدى ويدافع عن حقوق زملائه ولا يخشي في الحق لومة لائم.

من شدة الانفعال ضرب صديقي بيده المنضدة التي تفصل بيننا حتى كادت الأكواب الموضوعة عليها أن تتطاير، قال الصديق في حسرة لقد صدقناه لدرجة أننا كنا جميعًا نستشيره في أي شيء حتى أمورنا الشخصية رغم انه وقتها كان الأصغر سنًا ومكانة بيننا، لم أفهم سر انفعاله فما هو الضرر الذي حدث عندما يتقدم شخص ويدافع عن حقوق زملائه بل على العكس هو موقف نبيل .

ابتسم الصديق ساخرًا في حسرة وأخرج من جيب الجاكت ورقة ليعطيها لي لأرى ما فيها، كانت الورقة عبارة عن قرار من الشركة التي يعمل بها بالاستغناء عن خدماته مع تفاصيل خاصة بكيفية الحصول على باقي مستحقاته نظير سنوات الخدمة في الشركة، طوي الورقة وأعادها إلى جيبه.

قال في ألم .. لم اكن الوحيد الذي وصلته هذه الورقة فهناك زملاء غيري وصلتهم قرارات مماثلة والبعض الآخر قرارات بالنقل، لقد أصبحت الشركة بكاملها في يد هذا المخادع والإدارة تستمع له وتنفذ كل ما يشير به عليها، سألته في دهشة عن علاقة زميله المناضل كما أطلقوا عليه بهذه القرارات التي تمس مستقبلهم؟

كأنه يروي تفاصيل فيلم درامي بطله هذا " المناضل " ذو الألف وجه أو بمعني أدق هي تفاصيل صعود هذا المخادع ليتحكم في مصير الآخرين بكل ما يحمله من نوايا شريرة أمام أناس صدقوا شخصيته الزائفة.

حاول الصديق البحث عن بداية للفيلم التراجيدي الذي يعيش تفاصيله حاليًا وكأنه وجد المشهد الافتتاحي أو الرئيسي في الفيلم، قال في سخرية بعد وصول هذا "المناضل" إلى الشركة بوقت قليل كان هناك اجتماع عام لطرح بعض سياسات الشركة وقواعد الإدارة الجديدة الخاصة بطبيعة العمل داخلها.

أغلبنا كان يعلم أن بعض هذه القواعد ستكون مجحفة للكثيرين ولكننا قررنا بشكل أو بآخر تنفيذ هذه القرارات وبعدها يمكن مفاوضة الإدارة على تغيير جزء منها حتى لا نصطدم بها، لكننا فوجئنا أثناء الاجتماع "بالمناضل " يطلب الكلمة وأمام جميع الحاضرين في الاجتماع من زملاء ورؤساء فند " المناضل " هذه القرارات وطالب بتعديل جزء منها.

نظرنا له جميعًا في انبهار واحترام فرغم حداثة وجوده في الشركة نطق بالحق ولم يخف من الرؤساء، استدعته الإدارة عقب الاجتماع وأدركنا أن عقب الاستدعاء سيكون يومه الأخير في الشركة، لكنه عاد إلينا في ثقة مؤكدًا أن الإدارة استجابت لاقتراحاته وأننا المسئولون عن عدم تغيير أحوالنا بسبب صمتنا فيجب أن نطالب بحقوقنا ولكنه حذرنا من أنه يجب أن تكون مطالبنا واقعية وحقيقية، أكدنا على كلامه ومن يومها اعتبرناه هو الرسول بيننا وبين الإدارة.

أكمل الصديق ..رغم أنني كنت رئيسه في العمل إلا أنني وجدت فيه الأفضل لكي يكون المعبر عنا بسبب منطقه المتزن وأسلوبه الذكى، ولم أكتف بهذا بل طلبت بتصعيده حتى يتحمل مسئوليات أكبر والغريب أن الإدارة وافقت على الفور رغم أنه أكثر المعترضين على أي قرار.

لا أستطيع أن أصف لك حجم الشكر والامتنان الذي أبداه لي بعد قرار تصعيده كان يفعل كل ما بوسعه حتى يخفف عني أعباء العمل ولست وحدي بل العديد من الزملاء وتعددت ألقابه من المناضل إلى القديس إلى الملاك.

قاطعت حديث صديقي.. أنت هنا تتحدث عن شخص مثالي ومتفاني في عمله ولا يوجد أي عيب في هذا

عادت ابتسامة السخرية والحسرة إلى وجه الصديق ليكمل حديثه قائلا انتظر حتى تنتهي قصة المناضل، لم يمر وقت طويل حتى بدأت الشركة تحدث بها أمور غريبة فهناك زملاء يتعرضون لقرارات ظالمة بلا سبب، وآخرون يتم توبيخهم، والبعض يجد نفسه في مكان بعيد تمامًا عن ما يجيده من عمل، وكان صاحبنا المناضل هو أول من يذهب إلى الإدارة مطالبًا بتغيير هذه القرارات في أغلب الأحيان كانت الإدارة تصر على قراراتها ومرة أو مرتين وافقت على تغيير قرارها لكننا في النهاية كنا نشكر صديقنا المناضل الذي يعرض مكانه في الشركة للخطر من أجل الدفاع عن حقوق زملائه.

في أحد الأيام شعرنا جميعًا بسعادة بالغة لأنه صدر قرار بتصعيد صديقنا المناضل إلى مركز هام في الشركة بل تجاوزت اختصاصات مركزه ما أقوم به وكان سبب سعادتنا أننا شعرنا بأنه أخيرا حدث شيء صحيح بتولي شخص شريف هذه المكانة.

لم يمر وقت طويل حتى بدأ أصحاب المراكز العليا في إدارة الشركة يتطايرون واحدًا وراء الآخر والمناضل يقفز من مركز إلى مركز أعلي حتى أصبح من المنفذين في إدارة الشركة كلها، رغم ابتعاده عن مجالسنا ولقاءاتنا خارج الشركة التي كان لا ينقطع عنها إلا أننا التمسنا له العذر بسبب مهامه الثقيلة في الشركة . وأيضا لم نصدق ما يشاع بأن الشركة كلها أصبحت تدار لحسابه الشخصي واعتبرنا أنها شائعات حاقدة ضد رجل شريف مناضل.

صدر القرار الذي كنا نتوقعه من فترة فقد أصبح المناضل رئيسًا للشركة وبعد أيام كانت تصدر قرارات بالاستغناء عن خدماتنا ونقل آخرين مع وصول موظفين جدد اكتشفنا أنهم جميعًا يتبعون المناضل إما بالقرابة أو الصداقة وتحولت الشركة إلى عزبة خاصة به تدار لصالحه.

رغم كل ماحكاه الصديق لكني لم أفهم سر صعود هذه الشخصية الفاسدة؟

ضحك الصديق بحزن قائلا .. سر الصعود كان في الاجتماع الأول الذي اعترض فيه المناضل على قرارات الشركة، قبل أيام التقيت بأحد أعضاء مجلس إدارة الشركة السابقين وكانت عنده أخبار ما حدث معنا وكيف أصبحت الشركة عزبة خاصة للمناضل وشلته، نظر لي الرجل في سخرية سائلا هل تتذكر يوم اعترض فلان على القرارات التي أصدرناها ثم استدعيناه إلى مكتب رئيس مجلس الإدارة وكانت نية المجلس طرده أو على الأقل توقيع جزاء إداري رادع ضده؟ قلت له طبعا أتذكر، في هذا اليوم بدلا من أن نطرده أو نعاقبه كفأناه، لأنه بصراحة عقد معنا صفقة.

بكل دهاء أخبرنا أن القرارات التي سنصدرها ستسبب بالتأكيد حالة من الاستياء بين الموظفين وقد يقوم أحدهم بفعل غير متوقع يتحول إلى أزمة للشركة والأفضل أن يكون هناك أحد بينهم مثل جرس الإنذار يخبر الإدارة بما قد يحدث مسبقًا وأفضل غطاء لهذا الشخص أو الجرس أن يكون دائمًا ضد قرارات الإدارة أو مناضل وبالتأكيد سيكون هو هذا المناضل مقابل أن يحصل على بعض المكافآت وبالتأكيد لم يكتف المناضل بالمكافآت بل التهم الشركة بكاملها.

أكمل صديقي .. اعترف عضو الإدارة السابق لي بالخطأ لكن بعد فوات الأوان، لأن اليوم الذي عقدوا فيه الصفقة مع هذا المناضل كان اليوم الذي بدأت فيه الشركة في الانهيار.

استأذن الصديق في الانصراف لأنه ذاهب للبحث عن عمل جديد وقبل أن يغادر ابتسم قائلا بسخرية أتمنى ألا أجد في العمل الجديد مناضلين .

ودعت الصديق وأنا عندي شك كبير في أن تتحقق أمنيته.

Dr.Randa
Dr.Radwa