السبت 20 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (23)

مقالات10-7-2021 | 10:54

قلادة من عهد الملك سنوسرت الثاني.. متحف المتروبوليتان

قطعة أثرية مصرية فريدة، ضمن المجموعة المصرية التي يقتنيها متحف المتروبوليتان في الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كانت صغيرة الحجم، فهي عظيمة القيمة، في تاريخها، وفي تصميمها، وفي تقنيات صناعتها، وفيما تحمله من دلالات رمزية.

تعدُّ هذه القلادة من أهم قطع المجوهرات المصرية القديمة، التي تعود إلى عصر الدولة الوسطى، وتحديداً الأسرة الثانية عشر (1887-1878 ق.م)، عثر عليها في مقبرة إحدى الأميرات، في منطقة اللاهون، مدخل الفيوم، بجوار هرم سنوسرت الثاني وذلك عام 1914م.

 ولأن قبر الأميرة كان مجاوراً لهرم الملك، اعتقد البعض أنها كانت ابنته، بينما يشير البعض الآخر، اعتماداً على العناصر الأخرى الموجودة في المقبرة التي ذكر فيها اسم الملك أمنمحات الثالث، إلى أن الأميرة عاشت في عهد ثلاثة من أقوى حكام الأسرة 12، هم: سنوسرت الثاني، وسنوسرت الثالث، وأمنمحات الثالث، وهو ما يرجح أن تكون أميرة ذات حظوة ومكانة عالية في الأسرة المالكة.. ولعل قيمة هذه القلادة وثرائها، يؤكد ذلك.

في حضارة كانت مليئة بالثروات والكنوز كما في مصر القديمة، أولت النساء، وبشكل أكثر دقة الملكات، والأميرات من العائلة المالكة، اهتمامًا خاصًا بالمجوهرات، وامتد هذا الاهتمام إلى الرجال، حيث اعتاد الجميع على ارتداء قطع مختلفة من المجوهرات كزينة شخصية، وأحيانًا كتمائم سحرية اعتقدوا أنها تحميهم من الشرور.. فمنذ عصر ما قبل الأسرات العتيقة وحتى العصر اليوناني الروماني، كانت الحلي والمجوهرات جزءًا من الحياة اليومية للرجال والنساء، الأحياء منهم والأموات..  فكانت تُصنع في مصر القديمة في الوِرَش الملكية ووِرَش المعابد، وتُلبس في المعبد وفي القبر، وتُوهب كهدايا ومكافآت، وتُدفن مع المتوفى، وقد تُسرق من المومياوات ويعاد صهرها وصياغتها أو تصنيعها من جديد.

وكان المصريون، على اختلاف أجناسهم، رجالاً ونساء، وعلى اختلاف فئاتهم الاجتماعية، من أصغر كاتب إلى أكبر كاهن، ومن أفقر مزارع إلى الفرعون الحاكم، ومن أقل امرأة إلى أرقى أميرة أو ملكة، يتزينون بالمجوهرات عديدة الأشكال، متنوعة الخامة والحجم والقيمة، منها: الخواتم، والأقراط، والأساور، والصدريات، والقلائد، والتيجان، والأطواق، وحُلي الشعر، والتمائم.

 وغالبًا ما اعتمدت نوعية المعادن المصنوع منها المجوهرات والحلي وجودة صناعتها على حالة المالك أو من يرتديها، فالأقنعة الذهبية المتقنة، والصدريات المطعمة لملوك الأسرة الحادية والعشرين والثانية والعشرين من تانيس (حوالي 1069-945 ق.م) وأساور وقلائد وعقود أميرات الدولة الوسطى المعقدة التي عثر عليها في اللاهون ودهشور كانت ذات جودة عالية، تختلف تماماً عن خرز بسيط وجد في مقبرة رجل من عامة الشعب.. وتم تصوير العديد من أمثلة المجوهرات والحلي على المنحوتات ورسومات المقابر، كما نقلت لنا رسومات بعض المقابر القليل من تقنيات صناعاتها وصياغتها.

 وازدهر إنتاج المجوهرات في عهد الدولة الحديثة (1570-1077ق.م تقريباً)، وكان هذا بسبب البعثات الاستكشافية والجيولوجية التي تم أرسلت إلى الصحراء الشرقية لمصر، والخبرات التعدينية التي تراكبت وتطورت عبر السنين حتى وصلت ذروتها في عهد هذه الدولة وما بعدها، سواء في استخلاص المعادن من خاماتها، أو صهرها ومن ثم تشكيلها وصياغتها، أو لحامها ووصلها، وتطعيمها وزخرفتها، وكذلك الحال بالنسبة للأحجار الكريمة وشبه الكريمة بداية من إدراك لخواصها المختلفة من لون وصلادة وغيرها، ومن ثمَّ تقطيعها، وتشكيلها، وتهذيبها وتنعيمها. وشملت المعادن الثمينة والأحجار الكريمة التي استخدمها المصريون القدماء في صناعة الحلي والمجوهرات، الذهب، والفضة، والإلكتروم (سبيكة من الذهب والفضة)، والأحجار الكريمة مثل: الفيروز والزمرد والعقيق بجميع ألوانه واللازورد، الذي تم استيراده من غرب آسيا، والمرو والجمشت والزجاج الصخري وغيره.

لم تعتمد قيمة المجوهرات المصرية القديمة على ما فيها من معادن ثمينة وأحجار كريمة فحسب، بل تميزت أيضًا بتصاميمها الرائعة، ودلالاتها الرمزية المختلفة. فإضافة إلى الزينة الشخصية، وإبراز الثراء والمكانة الشخصية، كان المصريون يرتدون المجوهرات للحماية والصحة لأن المصريين كانوا يؤمنون بقوة الجواهر والرموز السحرية للأحجار والمواد المعدنية في حماية الأحياء من الأمراض والخطر، والحفاظ على مومياء المتوفي إلى الأبد.

كانت القلائد نوعًا مهماً من المجوهرات التي شاع التزين بها في مصر القديمة، وعادة ما كان يرتديها من ينتمون إلى الطبقات الأكثر ثراءً. وأظهر هذا النوع من المجوهرات مهارة في تقنيات الصناعة والصياغة، وخبرة كبيرة بخواص المواد وتوظيفها لخدمة أغراض دينية أو رمزية أو سحرية، وما عثر عليه في مقبرة الملك توت عنخ آمون يعد نموذجاً راقياً من الصدريات في عصر الدولة الحديثة

والقلادة موضوع المقال، الموجودة في متحف المتروبوليتان في نيويورك، والتي تنتمي إلى عهد الملك سنوسرت الثاني، وان كانت صغيرة الحجم (4.5سم عرض، و8.2سم طول) تمثل جزءًا من عقد طويل مصنوع من عدد كبير من قطع الذهب والأحجار الكريمة وشبه الكريمة، مثل: العقيق، واللازورد، والفيروز، والفلسبار الأخضر. تأخذ قطع العقد الشكل المخروطي المستطيل، حيث تضيق في جهة وتكبر في الأخرى، بينما تفصل بينها قطع دائرية مثقوبة، جميعها مقطوعة بمقاسات متساوية، ومهذبة بعناية، في سيمتريه هندسية وتنوع لوني جذاب.

تصميم القلادة يحمل العديد من الدلالات الرمزية، فما كان المصري القديم ليصنع شيئاً دون أن يصبغه بفكره أو معتقده أو تذوقه الجمالي، فالخطوط المتعرجة على شريط القاعدة تمثل المياه البدائية التي خرج منها التل البدائي الأزلي وسط دوامات مياه الفوضى ليمثل بدء خلق الكون كما تقول أسطورة الخلق الأكثر شعبية في مصر القديمة. وكلا الصقرين على الجانبين، كلاً منهما رمز لإله الشمس "حورس"، كل مخلب من مخلبي الصقرين يمسك بعلامة دائرية هيروغليفية ترمز إلى القوة العليا للإله الشمسي على الكون، ويواجهان فيما بينهما خرطوشاً يتضمن اسم الملك سنوسرت الثاني "خاخيبر"، وكأنهما يحميانه.

يحيط باسم الملك علامتان هيروغليفيتان لرمز الحياة "عنخ" معلقتان من أفعى الكوبرا التي تلتف ذيولها حول قرص الشمس على رؤوس الصقرين. تمثل هذه الثعابين "نخبت وأوجو"، الآلهة الحامية التقليدية للملك.

 ويدعم الخرطوش الملكي من أسفل الإله "هيه" إله الأبدية راكعًا ممسكًا بضلعين من كف اليد يرمز إلى "ملايين السنين".. وهكذا توصف حياة الملك ووجوده في الزمان بأنه جزء من كون خلقه وعززه إله الشمس الأعلى. كل هذه الاشكال، نُفِّذت على أرضية من الذهب تظهر في خلفية القلادة، والشكل الخارجي لهذه الأشكال نُفِّذ بأسلاك من الذهب، تحجز ما بينها الأحجار الكريمة، أو العجينة الزجاجية، بألوان مختلفة. وهذا دلالة على إدراك الصانع، أو الصائغ، بخواص الذهب، ودرجة انصهاره، وكذلك إدراكه لطبيعة العجينة الزجاجية، ودرجة انصهارها، إضافة إلى خواص الأحجار الكريمة المصاحبة لهما في التصميم على اختلاف أنواعها.

يمكن القول إن الدلالة الكلية للرموز التي احتوتها القلادة تقول: "يمنح إله الشمس المشرقة الحياة والسيطرة على كل ما تحيط به الشمس لمليون ومائة ألف سنة (أي الخلود) للملك "خا خيبر" (سنوسرت الثاني).

ولعل هذه القلادة تشير إلى أن المجوهرات والحُلي التي كانت النساء الملكيات ترتديها خلال عصر الدولة الوسطى لم تكن من أجل الزينة أو الإشارة إلى المكانة فحسب، بل كانت أيضًا رمزًا للمفاهيم والأساطير المحيطة بالملكية المصرية، كما تشير المجوهرات إلى أميرة أو امرأة ملكية تتمتع بمكانة عالية مكنتها من دعم الملك في دوره كضامن للنظام الإلهي على الأرض.. كان الملك في الأساس هو الذي استفاد من القوى السحرية المتأصلة في المجوهرات التي ترتديها عضوات عائلته، وهو ما يفسر ظهور اسمه، وليس اسم الأميرة في التصميمات.

هذه القطعة الأثرية الفريدة، واحدة من ستٍ وعشرين ألف قطعة أثرية مصرية، يقتنيها متحف المتروبوليتان في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، ثريّة في تصميمها، وفي خامات صناعتها، وتقنيات صياغتها، ودلالاتها الرمزية، وتدل دلالة واضحة على ما وصلت إليه الحضارة المصرية القديمة من رقي في صناعة الحلي والمجوهرات في الدولة الوسطى أي منذ حوالي أربعة آلاف عام.