الجمعة 19 ابريل 2024

جغرافيا مصر التي لن تزول ولو كره الكارهون

مقالات9-7-2021 | 21:00

للمصريين مقدسات لا يعلم قدر حرمانيتها ومنزلتها في نفوسهم إلا هم، كمنزلة سيناء الحبيبة، وحضارتنا المصرية القديمة باعتبارها "أقدم حضارات الأرض" التي قامت على "أقدم المهن" على الأرض وهي "الزراعة"، هذا بخلاف الآثار القبطية والإسلامية والرومانية واليونانية وحتى أثار الخلافة العثمانية، طبعاً بالإضافة إلى بحرينا المتوسط والأحمر وبينهما عقدي اللؤلؤ الواصلين البحرين ببعضيهما البعض من إنجازات مصر الحديثة "قناتي السويس القديمة والجديدة".

ولا أبالغ حين أقول أنه من المقدرات الربانية العظيمة التي قد لا يلتفت إليها البعض، أن أكبر علامتي نصر تحتضنهما الأراضي المصرية المقدسة، الأولى تحتضن سيناء الحبية، والأخرى تحتضن دلتا مصر بفرعيها دمياط ورشيد، تاريخ وجغرافيا مصر اللذان لا يقبلان تفاوضاً ولا جدالاً، هويتنا التي لا ولم ولن تزول.   

فجميع شعوب العالم تعلم قدر ارتباط المصريين كأمة متواترة منذ آلاف السنين، وكشعب يحيا على ضفاف نهر النيل الذي يرقى إلى مراتب قدس الأقداس، حتى أن توصيف النهر والنيل صار يطلق على بعضهما البعض، وكذا على بعض الأنهار الأخرى دون تفريق بينهما، فمرات تجد البعض يطلق على النهر لفظ نيل والبعض الأخر يطلق على النيل لفظ نهر، حتى ذاب التوصيف في الكلمتين فصارتا بمقام التوأم الملتصق، فما إذا ذكر نهر ذكر النيل حتماً.

ولأنني أعتبر نفسي من المحظوظين في الحياة ممن التقوا بالعديد من الأشقاء الأفارقة في إطار العمل وغيره، والذي ارتقى فيما بعد ليصير علاقة إنسانية ممتدة وقوية إلى الوقت الحالي، فقد أتيحت لي العديد من الفرص لتبادل الخبرات مع العديد من الجنسيات الأفريقية بشكل عام، ومع أهالينا بدول حوض النيل بشكل خاص، وما أشبههم بالكثير من صفاتنا الودودة والحميمية التي تأسر قلبك منذ الوهلة الأولى ببداية أي لقاء.

حتى أنني أكاد أجزم أنني قد اكتبست حنكة وخبرة التكهن بمعرفة الأشخاص من دول حوض النيل عن باقي الدول الأفريقية من أول حديث، فالباحثون في علوم النفس والاجتماع يعلمون جيداً أن المياه باعتبارها رمزاً للحياة تنعكس بالتبعية على نفوس وسلوكيات البشر مما يجعلهم أكثر وداً وألفة واجتماعية وإقبالاً على الحياة وحب الخير للغير، ذلك مقارنة بغيرهم من بني البشر من مواطني الدول الحبيسة، أو تلك التي لا تتمتع بأية منح ربانية جغرافية أخرى.

 

وبالتالي، فما يزال السلوك العدواني الممنهج من أهل الحبشة بمستغرب بالنسبة لي مقارنة بكل جنسيات دول حوض النيل الأخرى، هؤلاء الذين تغلبت أحقادهم على فطرتهم كشعب محسوب على أنه ينتمي لدولة منبع نهل النيل، نهر العطاء بالنسبة لنا والذي أسموه بالنهر الخائن فقط لأنه يمد الآخرين بالحياة، فهم يتعاملون معه ليس باعتباره نهراً دولياً ولكن باعتباره نهراً محلياً لا يجب أن يُسمَح بتقاسم خيراته مع آخرين، وهو النهر الذي يفيض على ما يوازي التريليون متر3 داخل الأراضي الإثيوبية، تحصل مصر منهم على 55,5 مليون متر3 هي إجمالي حصتها من نهر النيل، والسودان 18,5 مليون متر3، بإجمالي 74 مليون متر3، هي بالضبط حصيلة ما تحجزه الدولة الإثيوبية الآن خلف سد ما أسموه بالنهضة، في إشارة عدائية صريحة على أنها تتحكم بحصتي مصر والسودان مجتمعتين.

 ولمن لا يعلم فإن نهر النيل يُعدّ أطول نهر في العالم، إذ إن طوله 6,695 كم تقريباً، ويتكوّن من رافدين رئيسيين هما النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فكتوريا في أوغندا وتنزانيا وكينيا، والنيل الأزرق الذي يبدأ في بحيرة تانا بإثيوبيا، واللذان يلتقيان عند العاصمة السودانية، الخرطوم، ليشكّلا معاً نهر النيل الذي يجري عبر الصحراء الكبرى في مصر، والسودان، ليصبّ مياهه بنهاية مساره في البحر الأبيض المتوسط.

ويشكّل حوض النيل ما نسبته 10% من القارة الأفريقية، إذ يمر بإحدى عشر دولة فيها، وهذه الدول هي: إثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، ومصر، ورواندا، وتنزانيا، وبوروندي، وأوغندا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وإريتريا، وكينيا، ويجدر بالذكر أن نهر النيل يمر بشكل كامل في بعض الدول، مثل: بوروندي، ورواندا، وأوغندا، والسودان، ومصر، وبجزء بسيط في دول أخرى، كالكونغو.
وتشترك دول حوض النيل في استخدام موارد النهر لعدة أغراض، مثل: الزراعة، والشرب، والصناعة، وتوليد الكهرباء.

ولذلك فقد ظهرت الحاجة إلى إنشاء اتفاقية بين هذه الدول لتنسيق، وإدارة الموارد المختلفة، ففي عام 1990م أُسّست "مبادرة حوض النيل" التي تعدّ شراكة حكومية دولية، وعليها فقد تمّ تحديد حجم مياه نهر النيل من خلال الدراسات التي أُجريت باستخدام الأقمار الصناعية، وذلك بهدف مساعدة دول الحوض لتحقيق الاستخدام المستدام لهذه الموارد، ومع ذلك لم تلتزم جميع هذه الدول بالاتفاقيات التي أُبرمت، حيث تجاهلت إثيوبيا هذه المعاهدة، وأنشأت عدداً من السدود الكبيرة في منطقة النيل الأزرق من أجل استخدام الطاقة المائية في توليد الكهرباء، ومثال ذلك "سد النهضة" الذي تم الإعلان عن إنشائه عام 2011، وامتدت المفاوضات بشأنه منذ ذلك الحين للتوصل لاتفاق حول تنظيم استخدامه خاصة في أوقات الأزمات كالجفاف، وسنين الملء الأولى الخاصة به ، وهو الأمر الذي لا يتعارض بالمرة مع رغبة إثيوبيا المعلنة في استخدام السد لأغراض التنمية.

تلك المعركة الدبلوماسية التي تخوضها مصر منذ ما يقارب العقد من الزمان، والتي تم تدويلها لتصل لآخر مراحلها داخل قاعة مجلس الأمن الدولي، لتعرب مصر للمرة الأخيرة عن التحذير من التنكيل بمقدرات دولتين وشعبين، ومعهما مصيراً لن تتاونى الدولة المصرية عن تفادي جميع سيناريوهاته المحتومة سواء بتشغيل السد أو بانهياره فيما بعد.

فالمتابع جيداً لكافة تصريحات الدولة من خلال مسؤوليها سيجد الإجابة الحازمة بتصريحات السيد الرئيس يوم إعلان انتهاء أزمة باخرة إيفجرين بقناة السويس، وكلمة بيان العميد/ ياسر وهبة إبان افتتاح قاعدة 3 يوليو منذ أيام، وبالأمس القريب في التصريحات الواضحة للسيد/ سامح شكري وزير الخارجية خلال البيان الذي ألقاه على مجلس الأمن، وأنهاهه بشكل حازم وصريح "أن سد إثيوبيا يمثل تهديداً وجودياً حقيقياً لمصر، وأنه إذا تضررت حقوق مصر المائية أو تعرض بقائها للخطر، فلا يوجد أمام مصر إلا أن تحمي وتصون حقها الأصيل في الحياة".

إن دساتير العالم أجمع تبدأ موادّها الأولى بحق الإنسان في الحياة، وإذا كان هذا دستور الحياة، فلا يمكن لمخلوق أن ينكره على مخلوق مثله.

حق الحياة التي منحها لنا الخالق، وحق الدفاع عنها الذي أوجبه علينا

قِف إلى جانب دولتك، وثِق في كافة قراراتها، وادعم قيادتك الحكيمة التي أثبتت جدارة في كافة المواقف والمواجهات المحورية.

فإذا كان للبيت رب يحميه، فللنيل شعب وجيش يفتديانه، وسيسير النيل إلى حيث يرغب.