الجمعة 19 ابريل 2024

عزيزي حلم الإعلام والصحافة

مقالات25-6-2021 | 17:46

كانت دراستي للإعلام حلماً غالياً يراودني منذ الصغر، رغم عدم إدراكي الكامل لماهية الكلمة، وما ورائها، لكن تفاصيلها كانت تستهويني، حتى أنني وأخي كنا نتسابق لجذب الجريدة من بين يدي والدي فور عودته من العمل، فيقوم كل منا بممارسة عاداته في قراءة ما يستهوينا من أعمدة الكٌتّاب المشهورين أمثال أساتذتنا إبراهيم نافع، وأنيس منصور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الوهاب مطاوع، وغيرهم، إضافة إلى مختلف الأخبار.

ولم يكن هذا الحلم في غير محله على ما أظن، فقد كان مشروعاً ومبرراً حيث شرعت أسرتي منذ الصغر في زرع كل قواعد اللغة والدين الأساسية فيّ وفي أخي رغماً عن تكرار سفراتنا للخارج على مدار سنين طويلة ومتقطعة، وبُعْدَنا عن الوطن الأم الذي كان كفيلاً بالإطاحة بأساسيات الهوية شاملة اللغة والدين والتاريخ على أقل تقدير، إلا أننا لم نخفق يوماً في بديهيات تلك الهوية التي لطالما حرص أبوينا على صقلها وتنميتها لا فقط الحفاظ عليها، فكانت أمي تتولى أمر دراستنا بشكل كلي، وكان والدي يتولى تحفيزنا لحفظ القرآن الكريم ومكافأتنا كلما اجتهدنا في حفظ المزيد، ومن ناحية أخرى يقوم بشراء بعض الكتب المُعَرّبة عن علوم مختلفة كالفلك والجيولوجيا خاصة خلال فترة تواجدنا بالاتحاد السوفيتي السابق.

وكان يقوم بِحَثِي على قراءة الجريدة يومياً في أوقات الإجازة الصيفية وإعادة كتابة ما فيها، معللاً هذا بأن ذلك سيساهم في تحسين خطي من ناحية، وإلمامي بالعديد من المعلومات من ناحية أخرى، إضافة إلى اكتساب ثروة لغوية لن يتسن لي معرفتها من خلال الدراسة فقط، كان عبئاً لفترة باعتباره واجباً يقوم والدي بمراجعتي فيه بشكل شبه يومي، حتى صار عادة تمنحني سكينة لم أكن أفهمها أو أقدر على تفسيرها وقتها.

وكنت من جانبي أعشق عالم المكتبات والاطلاع برغم صغر سني، وساعدني في ذلك مشروع "القراءة للجميع" الذي كان مُعمماً في كافة ربوع مصر، فكانت متعتي الأساسية في ارتياد المكتبة الموجودة بالنادي القريب من إقامتنا، أو مكتبة مصر الجديدة ذلك الصرح الثقافي العظيم الذي مازال يمارس دوره رغماً عن أي تحديات أو تغيرات، كل هذا في نفس الوقت الذي كان فيه أقراني يقومون بقضاء إجازاتهم بالإسكندرية أو غيرها من المدن الساحلية.


ولما شب عودي وحانت لحظة كتابة الرغبات في التنسيق الجامعي، حاول والدي إقناعي مراراً بالالتحاق بكلية الحقوق مشياً على نهجه، إلا أنني أصريت على استيفاء كل خانات التنسيق بكتابة جميع كليات الآداب في جميع الجامعات حتى أقاصي الصعيد، دون ذكر ولو مرة واحدة لكُليتَي الحقوق أو التجارة مثلاً حتى التابعتين لجامعة عين شمس الأقرب لي، لا على سبيل الاستهانة أو التقليل لكن على سبيل يقيني برغبتي وأملي الكبير في الالتحاق بقسم الإعلام تحديداً، أو أي قسم آخر كالآثار أو الإرشاد السياحي أو اللغات.

رغماً عن كامل تخوفاتي من تلك المرحلة الانتقالية للخروج من بين مجتمع أسوار مدرستي الخاصة محدودة العدد، إلى مجتمع الجامعة الحكومية اللامحدودة العدد، والشاملة كل الفئات من كل حد وصوب باختلاف الخلفيات الاجتماعية والتعليمية. 


ولما علمت أن قسم الإعلام بكلية الآداب جامعة عين شمس كان قد تم افتتاحه بالفعل من الدفعة التي سبقتني، فكانت آمالي تسبق طموحي بأن أنال شرف هذه الدراسة الثرية المختلفة والمتنوعة، بعد طول عناء وململة في دراسة ما لا يستهويني، وبالفعل جاءني خطاب البُشرى بالقبول المبدئي بكلية الآداب، ومن ثم كان لزاماً علي اجتياز مرحلة التنسيق الداخلي للقبول بقسم الإعلام وعلوم الاتصال، والتي كانت تقضي بضرورة الحصول على مجموع 90% من إجمالي اللغات الثلاثة، بالإضافة إلى اجتياز المقابلة الشخصية.


وقد كان فضل الله علي عظيماً باجتيازي للشرطين المطلوبين والانضمام للقسم، وبمرور الوقت تيقنت أن دراستي تلك قد أسهمت بنسبة كبيرة جداً في إثراء خبراتي من ناحية، وتحويل شخصيتي للنقيض من ناحية أخرى، فصرت أكثر جرأة وثقة بالذات بعد أن كنت أوصف بالخجولة المنطوية إلى حد ما، تعلمت حنكة الخطابة بين جموع من الناس بعد أن كنت أخشاهم، تدربت على تنظيم الأفكار وتحديد الجمهور المستهدف من الرسالة التي أرغب في تمريرها ، بل ومضمون رسالتي ذاته وتقييم حجم تأثيرها، كل هذا بعد أن كنت مجرد مستمعة أو كان حديثي لا يرقى إلا لمستوى الدردشات.


أتذكر أن أستاذتي العزيزة أ.د/ سوزان القلليني، رئيس قسم الإعلام آنذاك والتي أدين لها بكل الفضل حتى يومي هذا، أنها طلبت منا مهمة إجراء مقابلة مع أي شخص، لكن مع الالتزام بالقواعد التي قمنا بدراستها في المواد التي كانت تقوم بتدريسها لنا كمادة نشأة وسائل الاتصال، وأسس علم الإعلام وغيرهم.


ولأنني لم أعتاد على نظرية استسهال تناول الأفكار، فطرأت على بالي فكرة إجراء حوار مع الحانوتي الأشهر بمنطقة مصر الجديدة وموقعه بميدان سانت فاتيما، فأخذت جهاز "الووكمان" الخاص بي لمحاولة إقناعه بفكرتي كدارسة للإعلام ومن ثم التسجيل معه في حالة القبول، وهنا أرشدني العامل بالمحل أن "المِعَلّم" بالفرع الآخر للمحل في منطقة ميدان الجامع بمصر الجديدة، وذهبت بالفعل وقمت بإجراء أول وأغرب حوار في حياتي، لا أتذكر تفاصيلاً كثيرة حول المضمون إلا أنني أتذكر ملامحه وهو يتحدث لي بشغف عن وظيفته وكأنه يريد أن يؤكد لي على أهمية ما يقوم به من عمل.


وتتوالى المهام المطلوبة مننا كطلبة للإعلام على مدار كل عام، فَطُلِبَ مِننا القيام بتصوير عدة لقطات من واقع الشارع المصري بحيث تعكس فكرة أو معنى ما دون الإفصاح عنها، وقمت بالتسكع لساعات في الشوارع المحيطة بمكان إقامتي بمصر الجديدة، حتى أخذتني قدماي لشارع محمد شفيق الذي يقع به "نادي الغابة" و "مستشفى الدعاة" التابعة لوزارة الأوقاف، وهنا توقفت على مسافة من مسجد علي ابن أبي طالب وبجانبه كنيسة سانت كاثرين المكونة من مجموعة من الهياكل الخرسانية المتجاورة في أحد الشوارع الخلفية لميدان هليوبوليس.


فقد كان يمكنني عن بعد رؤية قمة المئذنة الخاصة بالمسجد يعلوها رمز الهلال، وبجانبه أحد قبب الكنيسة يعلوها رمز الصليب، كان والدي دائم القول بأن مصر هي البلد الوحيد على الأرض الذي ستجد به هذا المشهد في كل مكان وحي وقرية ومدينة، فلم يكن من الصعب التقاط الصورة التي تجمع قمة القبتين جنباً إلى جنب، ولم يكن هناك مدعاة للشرح أو التفسير.


وفي مرات أخرى شاركت في إعداد صحيفة القسم التي كان لزاماً علينا المشاركة في توزيعها وبيعها بالحرم الجامعي الذي كان يشمل كليات الحقوق، والعلوم، والحاسب الآلي، ناحية اليمين للقادم من مصر الجديدة تجاه العباسية، وكليات التجارة، والألسن على اليسار، كان واجباً وشرفاً لكل دارس في هذا القسم يساهم به في نشر أخبار وأعمال خاصة بدفعاتنا التي لم تكن الدفعة الواحدة تتعدى فيها الأربعمائة طالب وقتها، مقارنة بطلبة التجارة والحقوق الذين كانوا يتجاوزون الآلاف في الدفعة الواحدة.


أظن أنني كنت أحتاج لسردي هذا على سبيل التوثيق لفترة محورية وانتقالية في سجل حياتي، وهو أيضاً على سبيل الاعتراف بكل مشاعر الامتنان والعرفان لكل مُحاضِر ومتخصص قام بنقل خبراته إلينا والتأثير في شخصياتنا إلى الحد الذي يجعلني كواحدة منهم اليوم أقوم بذكر كل هذه التفاصيل المنقوشة بالذاكرة.


ونفس مشاعر الامتنان تلك أمررها للوطن الأم الذي منحني شرف الدراسة بجامعاته الحكومية التي كانت بمصاريف دراسية رمزية شبه مجانية، إلا أنني وفي المقابل حصلت على دراسة قيّمة ذات جودة لا أقل فيها عن كفاءة الدراسين بالجامعات الخاصة وقتها والتي لم تكن تتعدى جامعة أجنبية واحدة فقط. 


شكراً من القلب لكل من علمني حرفاً فصرت له عبداً طيّعاً واعياً، يعلم الحدود الفاصلة بين إبداء مشاعر الاحترام والتقدير والعرفان، وبين إطلاق الهوى لمشاعر الانصياع والتبعية المُطلَقة دون وعي.