الثلاثاء 16 ابريل 2024

30 يونيو.. ثورةُ شعبٍ وجيش (3)

مقالات20-6-2021 | 16:14

 

منذ أن تولى الفريق أول عبد الفتاح السيسى منصب وزير الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة تجذَّرت فكرة عدم تدخل الجيش فى الشأن السياسى بعد أن ذاقت القوات المسلحة الأمَرَّين منذ تحملها –ممثلةً فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة- عبء إدارة البلاد حتى سلمت السلطة للرئيس المدنى المنتخب، وبدت القوات المسلحة أكثر مهنية وأكثر اهتمامًا بالتدريب والتطوير تحت قيادة الفريق السيسي، وتم تكليف أحد القيادات الوسطى الشابة بالقوات المسلحة ليكون متحدثًا عسكريًا باسمها، وتم إنشاء صفحة للمتحدث العسكرى للتواصل مع المواطنين ووسائل الإعلام لتوضيح مختلف الأمور المتعلقة بالقوات المسلحة.

 

مدرسة الوطنية المصرية

ورغم اهتمام القوات المسلحة بمهنيتها ومهمتها الأساسية فى الدفاع عن مصر ضد أعدائها، إلا أنها لم تهمل دورها كمدرسة للوطنية المصرية من حيث الاهتمام بالشأن الداخلى الذى كان من الملحوظ أنه آخذ فى التدهور فى ظل حكم مرسى وجماعة "الإخوان" المتأسلمين، فبعد أزمة الإعلان الدستورى الذى أصدره مرسى فى نوفمبر 2013 وأحداث الاتحادية فى ديسمبر 2012 واحتقان الشارع والقوى السياسية، حاول الفريق السيسى دعوة كل القوى باسم القوات المسلحة للمصالحة الوطنية، وهو ما رفضته جماعة "الإخوان". وعندما قرر مرسى معاقبة مدن القناة بفرض حظر التجول، ورفض الأهالى تطبيق الحظر، رفض الجيش إطلاق رصاصة واحدة على أى مواطن مصري، مما زاد من اللحمة الوطنية بين الشعب والجيش.

وتأتى إشارة أخرى من القوات المسلحة على تردى الأمور من تصريح الفريق صدقى صبحى رئيس هيئة الأركان المصرية السابق على هامش فعاليات مؤتمر ومعرض الدفاع الدولى "إيدكس 2013" فى شهر فبراير، قال فيها إن القوات المسلحة التى ظلت فى مركز السلطة لعشرات السنين، ستتجنب التدخل فى السياسة، لكن يمكن أن تقوم بدور إذا "تعقدت" الأمور، ولكن الأمر لم يصل بعد إلى مستوى الإضراب أو العنف الشديد، متمنيًا أن تحل التيارات والقوى السياسية المتنافسة نزاعاتها بالحوار، مشيرًا إلى أن الجيش لن يدعم أى حزب سياسي، ولكنه يمكن أن يساعد أحيانًا فى حل هذه المشكلة، ويمكن أن نلعب هذا الدور إذا تعقد الموقف، وقال مقولته الشهيرة: "إذا دعانا الشعب المصرى فسوف نكون فى الشارع فى أقل من الثانية".

 

الجيش لا يتدخل إلا لحماية الدولة من الانهيار

وذكر محللون أن الجيش يمكن أن يتدخل فقط إذا واجهت مصر اضطرابًا يماثل الانتفاضة التى أسقطت مبارك وسيحاولون أن ينهوا حالة الضرر الذى لحق بسمعة الجيش خلال الفترة الانتقالية الفوضوية التى تولى فيها الجيش المصرى المسئولية. وتأتى تصريحات صبحى أقل حدة من التى أدلى بها وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى يوم 29 يناير 2013، عندما قال فيها إن الاضطراب السياسى يدفع الدولة إلى حافة الانهيار، وأن الجيش سيظل الكتلة الصلبة المتماسكة والعمود القوى الذى ترتكز عليه أركان الدولة.

ورغم الفرص التى أضاعها "الإخوان" فى التوافق مع القوى السياسية طوال عام كامل، وسعيها الدؤوب نحو أخونة الدولة المصرية، إلا أن القوات المسلحة منحت الرئيس مرسى المهلة تلو الأخرى للتوافق، إلا أنه أضاعها أيضًا، ليتمرد عليه 33 مليون مصرى لتنطلق ثورة 30 يونيو فى كل أرجاء مصر، فما كان من جيش مصر إلا أنه لبَّى نداء الشعب لحماية البلاد من مواجهة محققة لا يعلم مداها إلا الله. وفى رأينا أن الجيش - مرة أخرى - لبَّى نداء الشعب مساء الأربعاء 26 مارس 2014 بإعلان المشير عبد الفتاح السيسى ترشحه لرئاسة الجمهورية لحماية البلاد من كل أعدائها فى الداخل والخارج، ليحقق بذلك رغبة ملايين المصريين الذين فوَّضوه المرةَ تلو الأخرى بأن يكون على خط المواجهة هو وجنوده مع أعداء الوطن.           

والمتأمل فى عصرى مبارك ومرسى يجد ضمن أوجه التشابه الكبيرة بينهما أنهما كانا خبيريْن بحق فى صناعة الإحباط واليأس وتوزيعه على الشعب المصرى ليل نهار؛ فمبارك حاول توريث ابنه حكم مصر بما فيها وبمن عليها فى صورة منقولة من إقطاعيات القرون الوسطى دون اعتبار لهذا الشعب أو مؤسساته، كما أن مرسى حاول تمكين جماعته من مفاصل الدولة المصرية فيما عُرِف بالأخونة، فكان الشعب لهما بالمرصاد، حيث انتفض فى ثورتيْن متتاليتيْن ضد حكمهما وأزاحهما من سُدة السلطة، وأزاح معهما كل تراث القهر واليأس والإحباط.

 

السيسى رائد صناعة الأمل

وبدأت منذ الثالث من يوليو 2013، مع إعلان "خارطة المستقبل"، صناعة جديدة فى مصر لم تشهدها طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود وهى صناعة الأمل.. الأمل فى الغد.. الأمل فى بكرة.. فى حياة كريمة وآمنة ومستقرة لكل المصريين على اختلافهم رجالًا وشبابًا ونساءً.. وهو الأمل المفقود الذى لم يجده الشباب فى عصرى مبارك ومرسى فكانوا هم طليعة الثورتيْن اللتيْن أودتا بهما إلى غياهب ظلمات التاريخ الذى لن يذكرهما بخير بين صفحاته.

ولعل اختيار المشير السيسى لمسمى "خارطة المستقبل" كان بدايةً موفقة لتدشين خطوط إنتاج صناعة الأمل فى الوطن المحبَط لتعطيه جرعة من التفاؤل فى المستقبل.. فيما هو آتٍ ويُنسيه كل ما مضى من سوْءات. ولم يكتفِ السيسى بهذا فقط، بل أنه أطلق شعارًا عبقريًا يمنح الشعب مزيدًا من الأمل وهو "مصر أم الدنيا.. وهتبقى قد الدنيا"، وهو شعار يخاطب جينات الدافعية والإنجاز لدى المصريين، والتى غالبًا ما يتم استنهاضها فى الأوقات الحرجة والعصيبة من عمر الوطن، وجدنا هذه الجينات تعمل بكامل طاقتها فى أثناء العدوان الثلاثى على مصر فى 1956 وفى أثناء حرب أكتوبر 1973، وأدرك السيسى أنه قد آن الأوان لاستنهاض هذه الجينات وحثها على العمل والإنتاج للانطلاق بسفينة الوطن إلى الأمام.

 

الشعب خلف قائده فى معركة التنمية

وبالفعل لم يخيِّب الشعب المصرى أمل المشير السيسي، حيث انطلق هذا الشعب يعمل فى رصف الطرق وإنشاء الكبارى وإصلاح ما أفسده "الإخوان" فى ميدانى "رابعة" و"النهضة"، وما حرقوه من جامعات وكليات وما دمروه من مديريات أمن وأقسام شرطة ومتاحف وكنائس، ليثبت هذا الشعب أن إرادة الحياة والعُمران لابد أن تنتصر على الرغبة فى الموت والدمار.

ليس هذا فقط، بل إن المؤشرات الاقتصادية تحسنت كثيراً منذ ثورة 30 يونيو 2013 ليرتفع التقييم الائتمانى لمصر مرتيْن متتاليتيْن من قِبل منظمات اقتصادية دولية، كما صعد مؤشر البورصة المصرية لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 إلى ما يزيد على 8000 نقطة، كدلالة قاطعة على الأمل فى مستقبل الاقتصاد المصرى فى الفترة القادمة، وهناك بعض خبراء الاقتصاد الذين يذهبون بأنه إذا أعلن المشير السيسى ترشحه للرئاسة، فإن هذا المؤشر سيرتفع 1000 نقطة دفعة واحدة، وسيستمر فى ارتفاعه حتى يصل إلى قرابة 11000 نقطة مع نهاية العام 2014، وهو ما يمكن ترجمته إلى عشرات المليارات من الجنيهات.

وبعد أن خفتت معدلات الإنجاز أو تلاشت فى عهد الإخوان، وجدنا حركة دؤوبة تدب فى أوصال الدولة المصرية لم تشهدها منذ زمن طويل، فهذه مشروعات لإسكان الشباب، وتلك مشروعات للنهوض بالمناطق العشوائية، وثمة مشروعات يتم إنجازها لمحطات توليد الكهرباء لتدخل الخدمة قبل حلول الصيف، علاوة على افتتاح المرحلة الثانية من الخط الثالث لمترو الأنفاق مع الإعلان عن توفير اعتمادات المرحلة الثالثة.

 

من مينا إلى السيسي

ومن يحاول قراءة بيان المشير عبد الفتاح السيسى الذى أعلن فيه ترشحه للرئاسة يستطيع أن يؤكد المعانى السابقة الواردة من حيث حرص القائد على شعبه مثلما كان حريصًا عليه طوال عمله بالقوات المسلحة طوال 45 عامًا، وثقته الكاملة فى هذا الشعب وقدراته؛ لأنه يعلم جيدًا أنهم أحفاد الفراعنة الذين ملأوا الدنيا حضارةً وعمارةً وعلمًا. إن القائد والجيش طالما شكَّلا ثنائيةً مهمة داخل قلوب المصريين منذ مينا ومرورًا بسيف الدين قطز وصلاح الدين الأيوبى وانتهاءً بجمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي.

لقد استطاع السيسى فى هذا البيان أن يمنح الأمل كعادته للمصريين، وهو ليس بالأمل دون عوامل أخرى تسانده، ولكنه الأمل الممزوج بالعمل، فالرجل لم يقل إن معه عصا موسى السحرية التى يستطيع أن يحوِّل بها الحياة إلى الفردوس المفقود، ولكنه دعا الجميع للعمل والتكاتف واستنهاض همم المصريين التى تظهر وقت الشدائد؛ ولأنه القائد فسيكون أولنا – كما قال – وسيبذل الجهد والعرق بغير حدود من أجل هذا الوطن.

 

صورة إعلامية رصينة لرئيس المستقبل

ومن يحلل بيان المشير السيسى –قبيل ترشحه لفترته الرئاسية الأولى- من الناحية الإعلامية من حيث لغة الجسد ونبرة الصوت والمستوى اللغوى والزى الذى يرتديه واللقطات المقربة close-up shots، يجد أنه كان موفقًا فى كل ذلك، بما يعكس صورة إعلامية جيدة لرئيس مصر المستقبل، بما يؤدى فى النهاية إلى تدعيم الصورة الذهنية الطيبة له فى نفوس المصريين؛ فلغة الجسد جاءت بسيطة دون تكلف أو تشنج وإن كانت تعكس القوة من خلال بعض الحركات الخفيفة لليد على المنصة التى يتحدث منها، كما أن نظرات العينيْن كانت توحى بالتواصل والحب لهذا الشعب، وكذلك بالتأثر البالغ نظرًا لأنها المرة الأخيرة التى سيظهر بها بالزى العسكرى ليذهب إلى الحياة المدنية مدافعًا وحاميًا للمصريين مثلما كان يوفر لهم الحماية بزيه العسكري. كما أن نبرة الصوت كانت هادئة وواثقة ودافئة دفء علاقته الطيبة والحميمة بهذا الشعب، بل ومتواضعة ورصينة فى وقت واحد، وانعكس هذا التواضع بأن حملته الانتخابية كانت دون إسراف تقديرًا لما تمر به البلاد من أحداث، وبأنه يمد يده لجميع المصريين دون إقصاء، وكانت اللغة موفقة تمامًا فهي، خليط من الفصحى التى تعكس رقيًا لغويًا يناسب المثقفين، كما أنها الفصحى المبسطة المخلوطة فى بعض الأحيان بالعامية المصرية، بما يؤدى إلى تواصل جيد مع المواطن المصرى البسيط.

 ولا شك أن ظهور المشير فى بيانه بالزى العسكرى يوحى بالانتماء إلى المؤسسة العسكرية وهى مدرسة الوطنية المصرية، علاوة على المرجعية العسكرية للقائد والرئيس، والتى يمكن أن تقود سفينة الوطن إلى بر الأمان وسط هذه الأمواج المتلاطمة التى تتقاذفها من كل مكان. كما أن اللقطات المقربة تجعل المشاهدين ينفذون إلى قلب الرجل ويتفاعلون مع قَسَمَاتِ وجهه ونظرات عينيْه، وهى أمورٌ مهمة فى التواصل الإعلامي، بل إن إحدى الدراسات الأمريكية أكدت أن اللقطات المقربة أدت إلى التصويت للمرشحين بشكلٍ أكبر من استخدام اللقطات المتوسطة أو البعيدة.

 

وفى النهاية أقول إن الشعب المصرى كان يحتاج إلى زعيم وقائد يتمتع بكاريزما وحضورٍ طاغٍ يؤمن به وبرؤيته لمستقبل هذا الوطن لكى تعود عجلة الحياة إلى الدوران، وتعود المصانع المتوقفة إلى العمل، ويُستأنف البناء فى المشروعات التى لا يتوافر لها التمويل اللازم، ويجد الشباب فرصة عمل ومسكن ملائم، ويعود الأمن إلى ربوع الدولة وأطرافها، ودعونا ممن يقول إن عهد الزعامات قد ولَّى ليبرر تولى أشخاص، لا طعم لهم ولا لون ولا وجود ولا خبرة، رئاسة دولة كبيرة كمصر، ولكن يجب أن يعلم السيسى أيضاً أن الجزء الأكبر من الزعامة سوف يكون مردها إلى رئاسته لمصر التى كانت وستظل زعيمة للمنطقة العربية برمتها، ولها دور محورى على الساحة الدولية.

إن السيسى ظاهرة فريدة لن تتكرر.. وفترته الرئاسية الثانية ستثبت للعالم ذلك.. إن مصر حققت فى السنوات السبع السابقة ما لم تحققه فى سبعين عامًا.