الخميس 18 ابريل 2024

الدين والدولة

مقالات17-6-2021 | 13:58

عندما انهارت الإمبراطورية العثمانية فى أعقاب هزيمة العثمانيين فى الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم أراضيها إلى مناطق نفوذ سيطرت عليها إنجلترا وفرنسا. وانتهت الخلافة الإسلامية عام 1924م حين ألغى كمال باشا أتاتورك الخلافة رسميًا، وأعلن أن تركيا دولة علمانية؛ تستند إلى فصل الدين عن الدولة، والسماح بوجود الدين كمصدر للإيمان الشخصى فقط. فى تلك الفترة ساد شعور عميق بالفراغ فى الدول الإسلامية، وظهرت الحاجة لإحياء الخلافة؛ ولذلك دعا الأزهر عام 1925م إلى عقد مؤتمر فى القاهرة لبحث موضوع الخلافة. انتهى هذا المؤتمر بقرارات تفيد أن منصب الخلافة ضرورى للمسلمين كرمز لوحدتهم واجتماعهم. ولكى يكون هذا المنصب فعَّالاً، لابد أن تتجمع فى يد الخليفة السلطة الدينية والسلطة المدنية.

 

وفى ظل النقاش الحاد حول وضع المسلمين تطلعت إنجلترا لجعل الملك فؤاد خليفةً للمسلمين، وبالتحديد فى الأيام المبكرة من سنة ١٩٢٧، وسط هذه الأجواء كان الشيخ على عبد الرازق يضع اللمسات الأخيرة لكتاب جديد له - فى الواقع هو بحث أكثر من كونه كتابًا - واختار له عنوانًا محددًا هو «الإسلام وأصول الحكم ـ بحث فى الخلافة والحكومة فى الإسلام». وقد اختصر فيه المسألة بوضوح، فقال بأن الخلافة الإسلامية ليست أصلاً من أصول الإسلام، بل هى مسألة دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وذكر أنه لم يرد دليلٌ أو بيانٌ فى القرآن، ولا فى الأحاديث النبوية يؤكد وجوب تنصيب الخليفة أو اختياره.

 

وأوضح على عبد الرازق فى بداية الكتاب الأسباب التى دفعته لدراسة الحكم فى الإسلام، فهو يشير إلى أنه تولى القضاء بمحاكم مصر الشرعية عام 1915، وقد شجعه ذلك على البحث فى تاريخ القضاء الشرعي، وهو يرى أن القضاء الشرعى هو ركن من أركان الحكومة الإسلامية، ومن ثَّم رأى عبد الرازق أنه لابد من دراسة الحكومة فى الإسلام كبداية لدراسة القضاء الشرعي.

 

أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة فى حينه، وتوالت عليه ردود علمية كثيرة، شعر الملك فؤاد أن عبد الرازق سيقطع عليه الطريق أمام تولى الخلافة، فصدرت فى حق مؤلف الكتاب أحكامٌ قاسية بإجماع آراء كبار المشايخ والعلماء فى الجامع الأزهر؛ قضت بطرد على عبد الرازق من زمرة العلماء، وفصله من وظيفته فى القضاء، وسحب إجازته العلمية من الأزهر.

 

ولقد رفض أنصار الإسلام السياسى ما ورد بكتاب على عبد الرازق جملةً وتفصيلاً؛ بحجة أن القرآن الكريم قد نص صراحةً على أن الحكم لله: «إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ» (سورة الأنعام – آية 57). «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» (سورة يوسف – آية 67). ومن ثمَّ ينادى أنصار ذلك الاتجاه بضرورة إقامة «دولة دينية» تحكم وفقًا للشريعة الإسلامية. ومن الواضح أنهم يقومون بلَى عنق النصوص؛ ذلك أن المولى سبحانه وتعالى لا يهبط من السماء ليتولى رئاسة الحكومة بذاتها، حتى يحق القول حينئذ «إن الحكم لله».

 

إن عملية الحكم عملية بشرية أولاً وأخيرًا، وما دام الذين يمارسونها بشرًا فسوف يقحمون مشاعرهم وميولهم وأهواءهم فى أى نص يحكمون بمقتضاه حتى وإن كان نصًا إلهيًا. إن الإنسان هو الذى يتولى الحكم أيًا كان هذا الحكم، حتى لو كان يرتكز على شريعة إلهية. وهذا معناه أن الاختيار لن يكون بين حكم الله وحكم الإنسان، وإنما بين حكم بشرى يزعم أنه ناطق بلسان الوحى الإلهي، وحكم بشرى يعترف بأصله الإنساني. وخطورة النوع الأول؛ الذى تظل تلازمه كل أخطاء البشر، تكمن فى أنه يضفى على هذه الأخطاء والأهواء صبغة القداسة، ويزعم لنفسه العصمة، ويخلط عامدًا بين الأصل الإلهى للأحكام وبين التفسيرات البشرية المغرضة لها.

 

يظل النص الدينى فى حاجة دائمة إلى البشر لكى يصبح حقيقة واقعة ويطبق فى مجال إنسانى ملموس. وعلى الرغم من أن الإسلام لا يعرف كهنوتًا، ولا يعترف بهيئة كنسية منظمة تكون «وسيطًا» شرعيًا بين كلمة الله وأفعال الإنسان، فإن تفسير النص الدينى على يد إنسان ما، يظل أمرًا لا مفر منه حتى يصبح هذا النص حقيقة واقعة. وهكذا يبدو من الضرورى وجود «توسط» بشرى من نوع ما بين النص وبين الواقع. وفى عملية «التوسط» البشرى هذه تظهر كافة الأخطاء والتحيزات التى يتعرض لها بنو الإنسان. فإذا كان النص إلهيًا مقدسًا فإن ما يطبقه ويفسره إنسان يتصف بكل جوانب الضعف البشرية. وأخطر ما فى الأمر أن الإنسان الذى يتصدى لهذا التفسير والتطبيق، سواء أكان رجل دين يشغل منصبًا كبيرًا، أم كان حاكمًا تستند سلطته إلى أساس دينى يضفى على نفسه قدرًا (يزيد أو ينقص) من تلك القداسة التى تتسم بها النصوص الدينية. ويقدم أوامره أو فتاويه للناس بوصفها تعبيرًا عن رأى الدين ذاته، لا عن فهمه هو للدين، ويصف معارضيه بأنهم أعداء الدين، لا بأنهم أعداء طريقته الخاصة فى تفسير الدين.

 

نود أن نؤكد أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ليست - كما يتوهم الكثيرون - دعوة دينية خالصة، وإنما لها بُعد سياسى خطير يتمثل فى السعى نحو الوصول إلى الحكم، وذلك بإقامة الحكومة الإسـلامية. إن السعى نحو الوصول إلى الحكم، فى ظل نظام تعدد الأحزاب، أمر مشروع، وإنما يكمن الخطأ والخطر فى إقحام الدين فى الأمور السياسية. ومحاولة - بعض الداعين إلى تطبيق الشريعة - الإيهام بأنها دعوة دينية خالصة لا تبتغى إلا وجه الله وتنفيذ أوامره، ومن هنا حاولت بعض الجماعات الدينية التأكيد على وجود تماثل بين الإسلام وتطبيق الشريعة، مدخلين فى روع الناس أن الدعوة إلى تطبيق الشريعة هى دعوة إلى الإسلام، وأن رفض هذه الدعوة هو مروق عن الإسلام.