الأربعاء 24 ابريل 2024

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (17)

مقالات29-5-2021 | 10:57

نماذج من وجوه الفيوم – متحف بتري في لندن

تقتني العديد من المتاحف والمجموعات الخاصة، في أماكن متفرقة من العالم، نماذج من هذه النوعية من اللوحات الفنية الأثرية ذات الطابع الفني المميز الفريد، منها: المتحف البريطاني في لندن، ومتحف اللوفر في باريس، ومتحف برلين ومتحف درسدن في ألمانيا، ومتحف الآثار في مدريد، ومتحفي بروكلين والمتروبوليتان في نيويورك، ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، بينما تسكن مجموعة قليلة العدد إحدى قاعات الطابق الثاني من المتحف المصري بالقاهرة.

يضم متحف بتري في لندن، الذي ينسب إلى عالم الآثار الإنجليزي فلندرز بتري Flinders Petrie (1953- 1942م)، مجموعة من أكبر مجموعات الآثار المصرية فى العالم، فهو يضم أكثر من 80000 قطعة أثرية مصرية منها مجموعة لا بأس بها من لوحات الفيوم. وكان "بتري" أول من عثر على مثل هذه الوجوه فى الحفائر التى قام بها عام 1887-1888م بالجبانة الرومانية في منطقة «هوارة» في الفيوم، حيث كشف عما يقرب من 81 لوحة من هذه اللوحات في حالة جيدة من الحفظ ورائعة من الناحية الفنية، وعندما عاود حفرياته بين عامي 1910-1911م في هوارة، وفي منطقة الشيخ عبادة بمحافظة المنيا، عثر على 70 أخرى منها، لكنها كانت أقل حفظاً من سابقتها.

ولوحات أو وجوه الفيوم، صور شخصية فردية ملونة تصوِّر الوجه وأعلى الصدر، لرجالٍ ونساءٍ وأطفال، تمثِّل ظاهرة فريدة في تاريخ الفن، ذات طابع فني خاص، مهّدت لقواعد فنية جاءت بعدها فصارت جسراً يصل فن التصوير القديم بفن التصوير اللاحق في العصور الوسطى.. أقدمها يرجع إلى القرن الأول الميلادي، ومعظمها يرجع إلى القرنين الثاني والثالث، وبعضها يرجع إلى القرن الرابع الميلادي.

وعلى الرغم من ظهورها في أماكن متفرقة في مصر، من سقارة في شمالها، إلى أسوان في جنوبها، ومارينا العلمين في غربها، وأخميم في وسطها، إلا أنها عُرفت نسبت إلى الفيوم، حيث تم العثور على الكثير من هذه اللوحات فيها، وتحديداً من منطقة هوارة، ومن ثم استخدم هذا الاسم للدلالة على الأسلوب المميز لهذه اللوحات أكثر من الدلالة الجغرافية لها.

كانت اللوحة، أو الصورة، تُرسم للشخص أثناء حياته، لتوضع في التابوت عند الوفاة، ويتم إلصاقها على وجهه وتثبيتها بلفائف الكتان حتى يمكن التعرف على صاحب الجسد أثناء عملية البعث. وبعض هذه اللوحات نفِّذ أو رُسِم بصورة مباشرة على الغلاف الكتاني، الذي كان يغلف وجه المومياء، واستخدم وسيط الشمع لحمل المادة الملونة من الأكاسيد الطبيعية فى القرنين الثاني والثالث الميلاديين، بينما شاع اللون الممزوج بالماء والغراء فى القرن الرابع الميلادي.

وتتميز هذه اللوحات بثراء وتفرد تقني تمثل في تنفيذها وتكوينها، فقد كان الرسم يتم على الخشب مباشرة، وأحياناً بعد وضع طبقة من الجص وصقلها.. وبعد أن يتم الرسم عليها تثبت في فتحة تشبه النافذة في لفائف الكتان، وقد قُطعت لوحات كثيرة من الأطراف لتثبيتها بين اللفائف.

 والصور الشخصية للشكل الكامل على الغطاء، أو اللفائف الكتانية، التى تغطى المومياء كانت أقل شيوعاً، وأحيانا ما كان يكتب الاسم بالديموطيقية أو اللاتينية على خلفية الصورة الشخصية.

 وشاع أسلوبان في تلوين هذه اللوحات، الأسلوب الأول هو أسلوب التصوير الشمعي (إنكوستيك)، وهو أسلوب استحدث في هذه النوعية من الصور، واستخدام في الغالب مع اللوحات الخشبية، وفيه تخلط المواد الملونة المسحوقة سحقاً جيداً بالشمع المصهور السائل، ثم يُرسم بالخليط وهو ساخن باستخدام فرش من ألياف النخيل، وفرش أقل سمكاً لرسم التفاصيل، وربما استخدمت آلة حادة لإبراز التفاصيل في الملابس والشعر.

أما الأسلوب الآخر، وكان أقدم استعمالاً من الأول، هو أسلوب (التِمبرا)، وفيه تمزج الألوان المسحوقة جيداً بوسيط مائي لاصق، مثل: الصمغ العربي، أو الغراء الحيواني أو بياض البيض، وغالباً ما استخدم مع الوجوه التي ترسم مباشرة على لفائف الكتان، واللوحات الخشبية للأطفال.

 وفي بعض الصور أو الوجوه، تم استخدام أوراق الذهب لتلصق على اللوحة لتصوير المجوهرات وأكاليل الزهور والتيجان وزخرفة الملابس. ومعظم هذه الوجوه كانت مربعة فى الأصل قبل أن تقطع إلى الحجم الذي يتلاءم مع وجه المومياء. وعادة ما كانت تُزيَّن مثل هذه الوجوه بأكاليل من الورد على الرأس، وتُحلَّى بأجمل الحُلي لتعبر عن ثراء الميت ومكانته.

ويتجلى تفردها التقني فيما تكشف عنه من خبرات متوارثة في الرسم والتصوير، ومهارة في تقديم مظهر نابض بالحياة.. فبجانب تقنية تكوينها وتركيبها وتنفيذ ألوانها، فهي تكشف عن معرفة بالبنية التشريحية، وقدرة على استخدام الظل والنور من خلال التدرج في الدرجات اللونية وتأثيراتها، وهو الذي يعطي مظهراً ثلاثي الأبعاد في معظمها.

 أما ثراءها الفني والجمالي فيتمثل في تنوع تقنية تنفيذها وألوانها، واختلاف ملامح الشخصيات المصورة، والثراء في الأزياء والحلي التي تتزين بها النساء، وتعدد أساليب تصفيف الشعر.

 فمن ناحية التقنية، نجد أغلبها قد رُسم على لوحات مصنوعة من أخشاب صلبة، وبعضها رُسم مباشرة على لفائف المومياء في منطقة الوجه بعد تغطية القماش بطبقة من الجص، ثم صقلها.. وأغلب اللوحات مستطيلة رقيقة، يتراوح سمكها ما بين نصف سنتيمتر وسنتيمترين ونصف وارتفاع يصل إلى 42 سنتمتراً، وعرض حوالي 22 سنتمتراً.

 

وإلى جانب ثرائها وتفردها التقني، تتميز هذه اللوحات بتفرد فني وثراء تعبيري كبيرين، ويتجلى تفردها الفني في كونها تمثِّل خروجاً عن الإطار الفني المصري القديم، وإن كانت امتداداً له في الغرض الجنائزي، فالدارس لها يلاحظ مزجاً فنياً واضحاً بين الأصول المصرية القديمة، والتأثيرات اليونانية والرومانية الوافدة.. فقد شكّلت مزيجاً حضارياً وثقافياً فريداً، فالصور والمفردات ذات طابع مصري في رمزيتها، وذات طابع يوناني في تقنيتها وملامحها، وذات طابع روماني في سياقها الاجتماعي وهيئتها.

ويتجلى ثراؤها الفني في ملامح الشخصيات المرسومة، فقد جمعت بين الملامح المتناسقة لوجوه النساء، ووسامة وجوه الرجال وشحوبها، كما جمعت بين الملامح الإغريقية والرومانية والمصرية كما في العيون ولونها، وفي الشفاه، وتشريح الرأس والوجه، والعنق، وطبيعة الشعر وغيرها من الملامح، وهو ما أضفى على هذه اللوحات الحيوية، التي أخذتها عن الفن اليوناني أو الروماني الذي يتصف بأنه فن الحياة، والهيبة والوقار الذي تمثل فيما احتفظت به من موروثات الفن المصري القديم الذي يتصف بأنه فن الموت أو ما بعد الموت.

كما يتجلى الثراء الفني فيما تعكسه الوجوه من ثراءٍ وتنوع في هيئة أصحاب هذه الصور، فمنهم من ينتمي إلى الطبقة العليا من العسكريين، وموظفي الخدمة المدنية، والشخصيات الدينية والرياضية، ومنهم من ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الثرية أو المقتدرة كمدرس الفلسفة، ومالك السفينة، وحائك الملابس كما سُجل على بعض اللوحات. كما يتجلى كذلك في تفاصيلها الدقيقة والكثيرة، كما في أناقة الثياب، وأسلوب تصفيف الشعر، وخاصة في لوحات النساء، فنجده ما بين القصير والطويل، المفروق من الوسط المنسدل على الجانبين والمتجمع للخلف أو لأعلى، ومنه الحر أو المقيَّد بتاج أو إكليل من الورد.

 وفي لوحات الرحال هناك الشعر المسترسل والمجعد، المتمرد، وشعر الذقن القصير المُنسَّق والمهذَّب، واللحية دون الشارب أو التي تصاحب الشارب في اتساق. كما يتجلى الثراء الفني في أشكال الحلي، وتفاصيل الزينة، فنجد منها تنوعاً في أقراط الأذن، وفي القلائد والعقود الذهبية وفي الأحجار الكريمة.. كما نلاحظ فيها ثراءً وتنوعاً في أشكال الملابس، وتصميماتها، وألوانها، والتي عكست في كثير منها تأنقاً واضحاً.

هذا الثراء في وجوه الشخصيات، وملامحها، وهيئاتهم، صاحبه وعبَّر عنه ثراءٌ وتعدد لوني على خلفية أحادية اللون، وتنوع وتفاوت في الدرجة اللونية أكسب الألوان أبعاداً أخرى.. فبالإضافة إلى استخدام الألوان لتجسيد الأحجار الكريمة في المجوهرات، وقلائد الذهب في الحلي، وإعطاء دلات نفسية كطغيان الألوان القاتمة على أغلب اللوحات تعبيراً عن هيبة الموت وجلاله

بينما يتجلى ثراؤها التعبيري فيما تمتعت به من دلالات تعبيريه صاحبت واقعية التصوير فيها، فالوجوه قد رُسمت كاملة من الأمام، بينما بعضها يلتفت قليلاً إلى اليسار، وتفيض بالمشاعر الإنسانية، فيكسو بعضها حزن شفيف، يثير الانقباض في بعضها الآخر، وإن اتسمت بعض الوجوه بالحيوية وبنظرتها الهادئة وابتسامتها المنكسرة.

وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى براعة التصوير، الذي تبوح به تفاصيل اللوحات وألوانها، وما تهمس به من عمق المعنى واستثارة الخيال، فالعيون الواسعة العميقة، تنبض بالحياة، تكفيك منها نظرة حتى تقع أسير تلك النظرة التي تطاردك أينما ذهبت، والشفاه المقبوضة على ابتسامة مخنوقة لا تنفلت منها، والحزن الساكن فيها ليل نهار، والجلال الذي يكسو الهيئة العامة ولا يخلو من التأنق اللافت. كل هذه الدلالات التعبيرية تجعل صاحب الحس المرهف، والبصر الواعي، يدرك أنها وجوه الموتى المليئة بالحياة، ووجوه متألقة متأهبة تملؤها الحياة وهي تواجه في أبهى حلتها.

كل هذا الثراء التقني، والفني، والتعبيري للوحات أو وجوه الفيوم، جعل منها أعمالاً فنية أثرية وتاريخية، فريدة الطابع، غنية الدلالات، وأضفى عليها تميزاً واضحاً وهو ما جعلها تراثاً إنسانياً فريداً، كان مزيجاً من الثقافات التاريخية والجغرافية، وأعطاها مكانة خاصة في عالم التصوير القديم فكانت ظاهرة فنية مميزة وجسراً بين ما سبقها وما تلاها من أساليب فنية. 

Dr.Randa
Dr.Radwa