الخميس 18 ابريل 2024

مفهوم الطاغوت.. بين منظور القرآن ومنظور تجار الدين

مقالات28-5-2021 | 12:34

لقد أصبحنا فى ضرورة مُلحة إلى تحرير المصطلحات التى اختطفتها جماعات الإرهاب والتطرف، وسوقوها وفق منهجيتهم الفكرية والثقافية، ولا يخفى على أحد الدور المشبوه الذى لعبه بعض الخطباء الزاعقين خلال عشرات السنين فى غرس صورة مغلوطة عن الدولة ومقوماتها، وكأنها رجس من عمل الشيطان! فى الوقت الذى يسوقون لفكرة بناء الخلافة على أنقاض الدولة بعد تخريبها!

ولقد شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات انتشاراً واسعاً لخطب ودروس شيوخ الكاسيت الممولين، والذين كانوا يغلفون تلك المفاهيم بالكثير من الرقائق الروحية والعاطفية الخاطفة للشباب والمستمعين وتدور رسالتهم حول فكرة واحدة.. المجتمع الفاسق أو الكافر  وحكومته الطاغية! وضرورة الالتزام بالإسلام وفق الطريق الذى يرسمه أولئك الوعاظ، ومن سلك طريقاً آخر فهو إما صوفى مشرك، أو أزهرى أشعرى فاسد العقيدة (تكفير) أو ضال مضل.

وللأسف الشديد كانت هناك مساحة لهؤلاء الوعاظ فى كثير من مساجد مصر فى القاهرة أو فى بقية المحافظات.

 

وأذكر جيداً عام 1999 تم تكليفى بأن أكون إماماً وخطيباً لمسجد الظاهر بيبرس بميدان الظاهر بالقاهرة، وكنت وقتها أبلغ من العمر 24 عاماً فقط، ورغم ذلك جذبت خطبتى الكثير من الشباب بهذه المنطقة الحيوية النابضة بالشركات والورش والأيدي العاملة وأهل مصر الطيببين، وبعد انتشار تأثيرى على الناس  فوجئت بعدة فتاوى ضدى من وعاظ سلفيين وإخوان كانوا يديرون مساجد وزوايا بالمنطقة!

تدور هذه الفتاوى بحرمة الصلاة خلف الشيخ الشاب أحمد تركى لأنه أزهرى أشعرى، ومعين من وزارة الأوقاف يعنى مناصر للطاغوت!

كما لاحظت أن بعض أتباعهم  كان يستمع إلى دروسى  للإفادة ويمتنع عن الصلاة خلفى بناء على هذه الفتوى!

وفى يوم من الأيام تم تكليفى بأداء درس الاثنين بعد صلاة المغرب بمسجد التوحيد بغمرة والذى كان وكراً للسلفيين والجماعات الجهادية (كثير من الإرهابيين اعترفوا فى محاضر تحقيقات رسمية بتكوين فكرهم فى هذا المسجد وغيره).. وكان يقوم بأداء الدرس الأسبوعى قبلى شخص يدعى الشيخ فوزى السعيد، هو فى الأصل مهندس وامتهن الوعظ وفق منهج الجماعات.

وأذكر جيداً فى أول درس لى بعد منع الشيخ فوزى السعيد قام الكثير من الحضور، وهم بالطبع ينتمون إلى الجماعات الدينية شديدة التطرف باتهامى   بمناصرة الطاغوت!

 

كل ذلك وأكثر كان تسميماً للمجتمع المصرى بل والمجتمع العربى وتهيئته  لقبول داعش والجماعات التكفيرية.

ثم كانت المواجهات الكبيرة فى الفترة الماضية بين الدولة المصرية وتلك الجماعات الإرهابية، وكيف كانت تلك الجماعات تتهم الشعب المصرى بمناصرة الطغاة، مبررة جرائمها وانتقامها من الأبرياء.

وكأن  المؤامرة على هذا الوطن كانت تتم بمراحل رويداً رويداً من مائة عام وأكثر.

 

إذن فما المقصود بالطاغوت؟ فى قوله تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ." (البقرة: 256)

الطاغوت من الطغيان (والطغيان مجاوزة الحد) كما فى قوله تعالى "إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية".

والطاغوت هنا فى هذه الآية يعنى الشيطان الذى يصرف الناس عن طريق الخير..

فقد رغب الله تعالى الناس فى اتباع رب العالمين الذى يدعونا إلى الخير بإيمان صادق على مستوى القلب والشعور والعمل الصالح، فى مقابل الكفر بالطاغوت، ومعنى الكفر بالطاغوت هنا (عصيان الشيطان فيما يدعو إليه من الشر على مستوى القلب والشعور والعمل أيضاً).

 

ومعنى قوله تعالى "فقد استمسك بالعروة الوثقى".. أي: فقد وصل إلى درجة اليقين، واستقام على الصراط المستقيم.

وللأسف قام المزورون لدين الله بتفسير الطاغوت تفسيراً مغايراً للحقيقة بما يتناسب مع أفكارهم وأهدافهم، حيث ادعوا أن الطاغوت هوالحاكم الذى لا يطبق الشريعة (من وجهة نظرهم).. وأن الواجب هو تنحية الطغاة (من وجهة نظرهم) والوصول للحكم؛ لإرغام الناس على الإسلام، وتطبيقه واعتناقه بالقوة! وللأسف  أيضاً ستجد معظم المواقع الإلكترونية التى تفسر هذه الآية تتبنى هذا التزوير.

ولقد كنت أتمنى من المخلصين فى المؤسسة الدينية إغراق السوشيال ميديا بالمفاهيم الصحيحة، فى مقابل الإغراق الذى تم من قبل التطرف بالمفاهيم المغلوطة، فلا تزال هذه المفاهيم المغلوطة تتصدر المنصات الإلكترونية عند البحث عن معانى تلك المصطلحات.

 

وردى الواضح على هذا الافتراء هو:

1-  لقد عالجت هذه الآية قضية الإكراه فى الدين بمعانٍ تتناسب مع الوحى الإلهى الذى يتصف بالرحمة والتسامح.

حيث نزلت هذه الآية فى رجل من الأنصار كان يريد إكراه أبنائه على الإسلام، فنزل الوحى بهذه الآية ليبين أن العقائد لا تفرض على أحد، بل الواجب هو اعتناقها بالاقناع واليقين المثمر للعمل الصالح.

فذكر ابن عباس رضى الله عنهما، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني كان له ابنان على غير ملة الإسلام، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا استكرههما؟ فأنزل الله فيه هذه الآية "لا إكراه فى الدين"..

يعنى: لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام فإنه بينُ واضحٌ جليٌ فى  دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى إكراه..

وهذا الموقف ينقض أفكار الإرهاب من جذورها..

 

2- تفسير كلمة الطاغوت بأنها الحاكم غير المطبق لشريعة الإسلام، وبالتالى الحكم على بلادنا العربية والإسلامية بالكفر لأنها طاغوت.

مردود عليه من خلال السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم..

فقد أسلم النجاشى ملك الحبشة وأجمع المسلمون على إسلامه ومات ولم يطبق من الإسلام شيئاً كحاكم (على مستوى الدولة) إنما طبق الإسلام كمسلم (بينه وبين ربه) ولم يفرض الإسلام على أهل الحبشة.

وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الغائب بعد موته تدل على إيمانه، وأنه لم يكن طاغوتاً كما يدعى أهل النار من الإرهابيين.

وتبقى مجاهدة التزوير فى القرآن والسنة هى جهاد الكلمة، والفريضة الغائبة تطبيقاً لقوله تعالى "وجاهدهم به جهاداً كبيراً" يعنى جهاد الحجة والتبيان.

وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل.