الجمعة 19 ابريل 2024

مشكلة الشر

مقالات17-5-2021 | 17:20

ما سبب وجود الشر في العالَم؟.. أول ما يرد على الذهن إجابة عن هذا السؤال: إن الإنسان هو مصدر الشر في العالَم.

ولنناقش هذه الإجابة؛ هل حقًّا الإنسان هو مصدر كل الشرور؟ قد تكون الفتن والحروب من تدبير الإنسان وصنعه، وهي بلا شك شرور بما تخلفه من قتل وتشريد ودمار.. لكن تبقى هناك شرور أخرى لا يد للإنسان في صنعها؛ كالبراكين والزلازل والأعاصير والسيول التي تسبب دمارًا واسعًا وبؤسًا شديدًا.

ما سبب وجود مثل هذه الظواهر التي ينجم عنها دمار البشر والحجر؟ في المصطلح الفلسفي تم وضع هذه المشكلة تحت اسم «مشكلة الشر» وهي مشكلة تنطوي على «مفارقة Paradox» والأساس الذي تستند إليه هو الإيمان بوجود إله قوي وقادر ورحيم .. رحمته تسع السموات والأرض، وقادر على أن يقول للشيء كن فيكون.. فإن كان قادرًا على منع الشر؛ فلماذا لا يمنعه وهو القادر الرحيم؟ هل يريد الله أن يمنع الشر (لأنه رحيم)، لكنه لا يستطيع منعه؟ لو صح ذلك فلن يكون قادرًا قدرة كافية وشاملة، أم أنه يستطيع لكنه لا يريد؟ لو صح ذلك فلن يكون رحيمًا.. أم أنه قادر ورحيم؛ فلماذا يوجد شر في العالَم إذن؟ .

هنا تكمن المفارقة، وتتضح المشكلة، وهى مشكلة لها تاريخ طويل في مجال الفلسفة، فقد حاول كثير من الفلاسفة وضع أساس منطقي لمشكلة الشر.. كان «أبيقور» يثير هذه المسألة في القرن الرابع قبل الميلاد، وسخَّر لها القديس «أوغسطين» كثيرًا من جهده الفلسفي قبل ما يزيد على ألف وخمسمائة عام.. وفي القرون التي تلت «أوغسطين» بذل كل مفكر من المفكرين البارزين بعض جهوده لصياغة هذه المشكلة.

يبدو أن «مشكلة الشر» تمتلك - من الناحية المنطقية - الحق في أن تكون واحدة من أكثر المشكلات خلودًا في الفلسفة.. ولقد صاغ «أبيقور» هذه المشكلة على النحو الآتي:

إما أن الإله يريد القضاء على الشر، ولكنه لا يستطيع، وإما أنه يستطيع لكنه لا يريد، وإما أنه لا يريد ولا يستطيع، وإما أنه يريد ويستطيع.. وهذا الاحتمال الأخير هو الوحيد - في رأي «أبيقور» - الذي يتناسب مع طبيعة الآلهة

قد يقول قائل: إن وجود الشر في الأرض كالزلازل والبراكين هو لعقاب القرى والمدن الظالم أهلها، لكن هل سكان تلك القرى أو المدن التي تعرضت للزلازل والبراكين جميعهم ارتكبوا ظلمًا؟ ألم يكن من بينهم أبرياء؟ فلماذا تعرض أولئك الأبرياء للشر أو الأذى؟ .

هناك مظاهر كثيرة تدل دلالة قاطعة على وجود الشر؛ إن زيارة خاطفة لإحدى مستشفيات الأطفال تكشف عن هول ما يتعرضون له من أمراض وآلام تعاني منها كائنات بريئة في عمر الزهور، إن رؤية معاناة الأطفال المرضى يرق لها قلب أي إنسان؛ رغم محدودية الرحمة التي يتحلى بها الإنسان، فلماذا لم يرق قلب الإله الرحيم القادر ويرفع المعاناة عن الأطفال الأبرياء؟ .

وفيما يتعلق بالأمراض التي تصيب البالغين؛ قد يقال أن المرء يصاب بالمرض عقابًا على ذنوب اقترفها في السابق، أو إن المرء الذي يصاب بالمرض يجني حسنات لصبره على ما ابتلى به، إلى جانب أنه يختبر قوة إيمانه.. وقد يرى البعض فيما يتعلق بالأمراض المزمنة المسببة لآلام مبرحة للأطفال أنها جاءت تكفيرًا عن ذنوب وآثام ارتكبها الوالدان.

لكن السؤال يظل مطروحًا: ما ذنب الأطفال يا ترى فيما ارتكبه الآباء؟ فهل من الجائز – على المستوى البشري – أن يحكم القاضي بالإعدام على طفل لأن أحد والديه ارتكب جريمة قتل؟! إذا كان ذلك لا يجوز على المستوى البشري، بسبب ما ينطوي عليه هذا الإجراء من ظلم ومجافاة للعدل.. فكيف يتسبب الإله في إصابة أطفال بأمراض خطيرة تكفيرًا عن ذنوب ارتكبها الآباء؟ .

وقد يقال إن مرض الأطفال هو عبرة وعظة لمن يعتبر!! والسؤال مرة أخرى: ما ذنب الأطفال؟ ألا توجد وسيلة أخرى لتقديم العظة والاعتبار دون إيقاع الألم والعذاب بالأطفال الذين لا ذنب لهم في شيء؟ .

علامات استفهام كبيرة وكثيرة يحتاج تأملها لقدر كبير من الروية والتدبر، ذلك أن التأمل العميق للشر ومعاناتنا نتيجة لوجوده، لا تدفعنا بالضرورة إلى عدم الإيمان بوجود إله عادل ورحيم وقادر على كل شيء.

حاول بعض المفكرين فض «مشكلة الشر» وحلها بالقول: إن رفع الشر عن الدنيا يقتضي إلغاء حرية الإنسان في الاختيار، لأن رفع الشر عن العالَم يتعارض مع وجود «الحرية الإنسانية».. منح الله الإنسان إرادة حرة تمكنه من أن يفعل خيرًا أو شرًّا؛ وفقًا لما يتخذه من قرارات، ومن ثمَّ فإن رفع الشر يعني نزع حرية الإنسان في ارتكاب الشرور؛ ويصير ملاكًا.. ردًّا على هذه الحجة نقول إن الشرور ليست ذات مصدر واحد هو الإنسان، بل لها مصادر أخرى ليس الإنسان واحدًا منها.

ومهما يكن من شيء، فإن الشر قد يكون في أحيان كثيرة دافعًا لتعميق الإيمان بوجود الله.. وعلينا ألا نغفل حقيقة أن كثيرًا من الناس تم اجتذابهم إلى الإيمان والالتزام الديني من خلال المرور بمحنة أو أزمة.. فنحن نعلم أن المرء حين يمر بمحنة أو أزمة (أي حين يواجه شرًّا) يسارع بالقول: «يا رب .. يا رب».. فعادةً ما يلجأ الناس إلى الله طلبًا للمساعدة، في حالة شعورهم بالمعاناة أو الخطر أو اليأس أو الظلم.

دكتور حسين علي - أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس