الخميس 25 ابريل 2024

عبقرية السعدني

الكاتب الكبير محمود السعدني

ثقافة16-5-2021 | 16:51

حمدى حماده

رحل عمنا الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى يوم ٤ مايو ٢٠١٠ وفاضت روحه لبارئها بعد حياة حافلة بحلوها ومرها وهنائها وبؤسها وشقائها، حتى فى مراحل سجنه وحبسه كان ساخرا ومبتسما..والسعدنى حل على دنيانا يوم ٢٠ نوفمبر ١٩٢٧ ..والغريب أن يوم مولده يتوافق مع يوم مولد والده عثمان السعدنى، وهو ذات اليوم الذى ولد فيه ابنه زميلنا الصحفى أكرم السعدنى، والوحيد على زهوره من البنات هالة وهبة وأمل وحنان من زوجته الوفية الراحلة الحاجة مكارم ابنة الإسماعيلية، وشقيقة المؤلف المسرحى الراحل عبد الرحمن شوقى الذى ابتكر شخصية فطوطة، التى جسدها سمير غانم فى فوازير رمضان من سنين، وهو من كتب غالبية مسرحيات ثلاثى أضواء المسرح وآخر مسرحياته "هالة حبيبتى" لفؤاد المهندس ..

ما علينا ..كانت الحاجة مكارم هى الزوجة الحبيبة للسعدنى، والتى شاركته فى أفراحه وأحزانه وهى الزوجة الوفية، فصبرت وتحملت ولم تكسرها الأيام التى سجن السعدنى فيها وتم اعتقاله حتى فى عهد عبد الناصر والسادات أيضا! ومن الطرائف عن اعتقاله فى عهد عبد الناصر أثناء زياره له لسوريا إبان الوحدة أعطاه خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعى السورى رسالة مغلقة وطلب منه توصيلها لعبد الناصر، ودون أن يعلم بمضمونها وكانت تتضمن تهديدا وهجوما على عبد الناصر فتم القبض عليه وسجن قرابة العامين، ثم أفرج عنه بعدها بعد أن اتضحت الحقيقة؛ لأنه ظن أن الرسالة إشادة وتأييد لعبد الناصر ..والسعدنى الساخر كتب العديد من المؤلفات الضاحكة والساخرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر مسافر على الرصيف وملاعيب الولد الشقى والسعلوكى فى بلاد الأفريكى والموكوس فى بلاد الفلوس ووداعا للطواجن، ورحلات ابن عطوطة وأمريكا يا ويكا ومصر من تانى، وعزبة بنايوتى وقهوة كتكوت وتمام يا أفندم والمضحكون وعودة الحمار وبالطول والعرض وهى رحله لبلاد الخواجات ..

والسعدنى لمن لا يعرف فى الأصل منوفى من قريه كفر القرنين مركز الباجور، لكنه تربى فى حارة من حارات الجيزة القريبة من شارع البحر الأعظم، والسعدنى لن يتكرر مرة أخرى كالساخر كامل الشناوى أو أحمد رجب أو صلاح جاهين ..وهو إنسان ومواطن مصرى بسيط وكان لا يحب التنطيط ويعشق التنكيت وكان يكتب بلا خوف أو رهبة من أحد سوى ما ينطق به وجدانه من سخرية لاذعة وضاحكة وبشفافية ومصداقية ..وصداقاته وعلاقاته لا حصر لها ما بين الرؤساء والملوك والأمراء والمشاهير من أهل السياسة والفن والشعر والأدب، فصادق الكبار والصغار والمهمشين وأبناء السبيل وصداقاته جمعت بين الشامى والمغربى ..وجلساته كانت تضم المشاهير وأصحاب القامات والهامات وكان من أصدقائه المحببين الشيخ زايد والملك عبدالله وياسر عرفات وصدام حسين وعلى عبد الله صالح وآخرون ..وحياة السعدنى كانت حبة فوق وحبة تحت ويوم فى العالى ويوم فى النازل وكان لا يأبه ولا يهتم؛ لأنه كان متوكلا على الله وكان يقابل الأحوال بسخرية لاذعة أو بنكتة ساخرة ولكنها باسمة ومضحكة ..ورغم ذلك بكى بحرقة يوم أن شاهد إعدام صديقه صدام حسين على حبل مشنقة الخيانة والعمالة ببغداد، ولم ينس عشرته لصدام عندما كان طالبا بحقوق القاهرة وجلساته معه وعشرته وتناولهما الطعام سويا بأحد مطاعم الدقى، وسهراتهما وكان صدام من طلبة العراق الثوريين ..وارتبط السعدنى بصديق عمره الحاج إبراهيم نافع عمدة الجيزة وسلطان المجالس العرفية فى الصلح ..والسعدنى كان حكاء ولا تستطيع أن تقاطعه لحلاوة ما يسرده من القصص والحواديت والمواقف والطرائف والروايات عن الأرزقية والبكاشين والهباشين، ولم ينس حتى عن سرد حكايات سكسكة فتوة الجيزة، والتى كان يحلو لها افتعال الخناقات والمشاجرات مع طوب الأرض وكانت تتقن الشردحة بامتياز تماما كنسوان حوش بردق وتهوى الضرب بالروسية والنبوت والشلوت..طبعا مش كانت فتواية الجيزة، وكان يخشاها الرجال..كانت حواديت السعدنى عنها شائقة ..ومن نوادر مقالبه كانت مع الكاتب الساخر والشاعر كامل الشناوى فى بداية الستينيات..ففى إحدى السهرات الصحفية بروز اليوسف تقمص السعدنى شخصية كامل الشناوى وأمسك بالتليفون أبو منفلة وهاتك يا اتصالات بأشهر محلات الكباب والكفتة، طالبا من كل حاتى خمسة كيلو كباب وكفتة وبالسلطات وبحيث يأتى كل طلب فى ميعاد محدد ..وعندما هلت بشاير قدوم الطلبات كان يتم السؤال عن عمنا كامل الشناوى فيفاجأ برنين جرس التليفون على مكتبه من عامل السنترال الداخلى لمجلة روز اليوسف فيرد ويفاجأ  بمن يقول له الطلب جاهز يا بيه! طلب إيه يا ابنى ..طلب الكباب والكفتة من عند أبو شقرة! ويقول الشناوى: هوه أنا اللى طلبته، ويسمع: أيوه يا بيه ويعقب: ماشى يا ابنى اطلع وخد الحساب ..

وهكذا ولأربع مرات متتالية ..واكتشف أن المقلب من السعدنى عندما دخل عليه وقال له: بسم الله معانا ياعم كامل حنعشيك كباب وكفتة ..فضجا بالضحك لأن كامل الشناوى كان سخيا وكريمًا .. وكان السعدنى عمدة مصطبة الكلام وكريما ولم يكن بخيلا ..وكتاباته ستظل حية ولن تموت ..ولم يكن بالإمعة أو بالبردعة أو صاحب منفعة ..

وكان وفاؤه بلا حدود لأصدقائه حتى من شاركوه وقت حبسه وسجنه وكان حديثه عنهم ذا شجون ..وأذكر أنه عندما ترك الدكتور كمال الجنزورى مهام رئاسة مجلس الوزراء كان السعدنى يتصل به ويدعوه للحضور لنادى الصحفيين؛ ليتسامر معه فى جو من الألفة والمودة والمحبة ..وكان السعدنى يجيد تقليد الأصوات فلو كان يحكى لنا عن الشيخ زايد أو صدام حسين مثلا يتحدث عنهم وكأنه استحضر أصواتهم حتى نحنحتهم! والحديث عن السعدنى يطول ويحتاج لأوراق أسطر عليها الآلاف من السطور ..

ويكفى ما كتبه محبوه عنه كما كتب محمد عبدالله: لم يكن ساخرا ولم يكن مضحكا ولم يكن أبدا راغبا فى أن يحج الناس إلى مجلسه ليرسم فوق شفاههم البسمات أو يمحو من فوق جبينهم الذى خطت عليه أقدام الفقر والعوز -عبر السنين- لم يكن كل ذلك ..فقط كان رائحة الرصيف وشذى الأرض البكر وعبق الطين الأسمر ..هو المصرى بكل تفاصيله..الحكيم ..الصلب ..الفهلوى ..القرارى ..اللئيم ..البسيط ..الحويط ..كنت ترى فى قسمات وجهه كل المصريين ..روح تتفجر ورفض كل شيء لا يرضاه ..هو ليس مجرد كاتب اختار الانحياز للبسطاء ..إنه مؤرخ الحرافيش وأميرهم ..كان السعدنى يمثل مدرسة من الكتابة تخترق القلوب والعقول ..وتؤسس لمملكه شعب فى مقابل مدرسة كتاب الحكم ..ويكفى ما قاله الشاعر الراحل كامل الشناوى عنه: يخطئ من يظن أن السعدنى سليط اللسان فقط إنه سليط العقل والذكاء أيضا! والسعدنى وصف نفسه بقوله: رغم الظلام الذى اكتنف حياتى ورغم البؤس الذى كان دليلى وخليلى فإننى لست آسفا على شيء فلقد كانت تلك الأيام حياتى! وقال عنه الروائى الراحل خيرى شلبى: خلق الله محمود السعدنى على هيئه بشر ولكن بمزاج الفاكهة والورود والرياحين، وهو الوحيد الذى جمع بين موهبة الكتابة والخطاب الشفاهى فى اتساق تام وتوازن خلاق.

ومن حسن حظى أننى عايشته وارتبطت به وكان نعم الوالد والأستاذ ..فإذا أحبك السعدنى ضمك على الفور لتكون أحد أفراد القبيلة السعدنية ..كان اللطيف والظريف والكريم والأديب الأدباتى ..كان شمعة مضيئة فى سماء العتمة بسخرية مقالاته حتى لو أطلق قفشاته ونكاته!

Dr.Randa
Dr.Radwa