السبت 20 ابريل 2024

هل أحبّ رسولُ الله محمد صلي الله عليه وسلم مصر؟

مقالات2-4-2021 | 12:20

هل أحبّ رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم مصر؟

لقد قدر الله لمصر أن تكون فيها قوة الجغرافيا، وقوة التاريخ، والقوى الشاملة تَصْنع ولا تُصنع.. تصنع النصر والحضارة، ولا تصنعها الأحداث أو الثروات.. قد تضعف بعض الوقت ولكن لا تموت، بل تعود بقوة أكبر.

عندما تحارب لا تعتدى ولا تغزوا، بل تدافع عن مصالحها وتنتصر انتصار العمالقة، ولقد كسبت كل حروبها عبر التاريخ، فهى قد تخسر معارك لكنها لم تخسر حرباً يوماً ما، وتُدرس خططها الحربية لكل جيوش العالم.. الإيمان الدافع للعطاء هو جزء لا يتجزأ من ثقافة المصريين، والحب والتسامح جزء كينونتهم، تأثيرها على قارات الدنيا بلا ضجيج، لدرجة شحوط سفينة فى قناة السويس يؤثر على سعر النفط فى أسواق أمريكا، بل يهدد التجارة العالمية.

أرادها أعداؤها ضعيفة بلا هوية للسيطرة على قواها.. وفشلوا، إنها باقية إلى قيام الساعة كما بقيت آلاف السنين على ناصية ثلاث قارات، يحدها بحران وينتصفها نهر.. بقيت جغرافيتها وقوتها وشعبها، فى الوقت الذى تغيرت كل خريطة الأرض من حولها آلاف المرات.

مباركة فى كل الكتب السماوية وعند كل الأنبياء.. إنها جوهرة واحدة على الخريطة.. وصفها المرحوم جمال حمدان بقوله: "مصر فلتة جغرافية".

إنها مصر صانعة لمصيرها بإذن ربها، وقاهرة لكل معتدٍ أثيم بقوة جيشها وشعبها، ولقد تحدثت منذ عدة سنوات فى مقال سابق عن ذكر مصر فى القرآن والسنة وفضلها تحت عنوان "القرآن باقٍ.. فمصر باقية".. وقد عرضت كل الروايات من السنة النبوية المطهرة التى تتحدث عن مصر وجندها وأهلها وقبطها، وعسلها وبعض أماكنها حتى الملابس القطنية التى كانت ترد من مصر إلى جزيرة العرب، أثنى عليها رسول الله ودعا لصناعها بالبركة.

وهذه الروايات تقدر بعشرين رواية، منها الصحيح ومنها الضعيف، ومعلوم أن الحديث الضعيف يعمل به فى فضائل الأعمال والمناقب، وخاصة أن القرآن ما ذكر مصر إلا فى صورة المدح حتى وهو يشنِّع على فرعون وملائه وهو يحذر من صنيعهم السيئ، ومدح مصر مرتين وهو يقص قصة يوسف عليه السلام، ومدح المصرى العظيم الذى اشترى نبى الله يوسف ليكرمه وليس ليتخذه عبداً.

قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (يوسف: 21)

وقد تبادر إلى نفسى هذا السؤال، عندما قرأت أحاديث رسول الله عن مصر رغم أن الإسلام لم يدخلها إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بعشر سنوات كاملة.

هل أحب رسول الله مصر؟

والذى لا يعرفه الكثير أنه (صلى الله عليه وسلم) زار مصر ومر عليها وصلى على أرضها المباركة ليلة الإسراء والمعراج، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:«أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَرَكِبْتُ وَمَعِى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَسِرْتُ، فَقَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَفَعَلْتُ.

فَقَالَ: أَتَدْرِى أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ.

ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِى أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَصَلِّ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَقَالَ: أَتَدْرِى أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ.

نعم صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بطور سيناء، وهذا الموقف له دلالة عظيمة جداً، ومن ذلك بركة رسول الله التى كان يلتمسها الصحابة فى أنفسهم وبيوتهم وكانوا غالباً ما يتنافسون عليها إلى حد العراك. انتقلت إلى مصر المحروسة بسجود الحبيب صلى الله عليه وسلم على أرضها فى طور سيناء.

وفِى العام السادس للهجرة بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بستة رسل فى يوم واحد إلى الحكام فى العالم، يعرض عليهم سماحة الاسلام ويطمئنهم أن الإسلام رسالة سلام مع الله ومع الإنسان، وأنه نبى يريد اتباع الهدى وليس محتلاً يريد الهيمنة وثروات الناس.

واسمحوا لى عرض الرسالة التى بعث بها إلى المقوقس عظيم القبط فى مصر: جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، واسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فان توليت فإنما عليك إثم الآريسين".

ورد عليه المقوقس (كان المقوقس قد دعا كاتبه الذى يكتب له بالعربية) فكتب إلى النبى (صلّى الله عليه وآله): "بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط: سلام عليك، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبثياب، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك".

لاحظوا معى رسالة السلام والود بين رسول الله وبين المقوقس، وذكره رسول الله بالآريسين، نسبة إلى الراهب آريوس (ظهر فى القرن الرابع الميلادى وهو من صعيد مصر)، وذكر رسول الله لآريوس فى رسالته يحمل دلالة عظيمة، أنه كان يعلم تاريخ مصر والمشتركات الدينية والإنسانية بين رسالة الإسلام ومصر.

أما مارية التى أصبحت زوج رسول الله وأم المؤمنين فهى "مارية بنت شمعون القبطية"، إحدى أمهات المؤمنين وأنجبت له ثالث أبنائه الذكور إبراهيم والذى توفى وهو طفل صغير. وكان أبوها عظيماً من عظماء القبط، كما ورد على لسان المقوقس فى حديثهِ لحامل رسالة الرسول إليه.

لمارية شأن كبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى صحيح الإمام مسلم: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون مصر، وهى أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً"، أو "ذمة وصهراً"، وفى رواية: "استوصوا بأهل مصر خيراً، فإن لهم نسباً وصهراً". والنسب من جهة هاجر أم إسماعيل عليه السلام، والصهر من جهة مارية القبطية رضى الله عنها.

ويروى كثير من أهل السيّر مظاهر حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لزوجته مارية أم المؤمنين. لدرجة أنه كان يحرص على رضاها وإكرامها وحُسن عشرتها.

وأنزل الله صدر سورة التحريم بسبب مارية القبطية كما ذهب لذلك بعض أهل العلم،، وقد توفى الرسول وهو راضٍ عن مارية، وكانت مارية شديدة الحرص على اكتساب مرضاة الرسول.

بعد مرور من زواجه صلى الله عليه وسلم من مارية، حملت، وفرح النبى صلى الله عليه وسلم لسماع هذا الخبر فقد كان قد قارب الستين من عمرهِ وفقد أولاده جميعاً ما عدا فاطمة الزهراء وولدت مـارية فى "شهر ذى الحجة من السنة الثامنة للهجرة النبوية" طفلاً جميلاً يشبه الرسول، وقد سماه إبراهيم، تيمناً بأبيه إبراهيم خليل الرحمن.

ومن ناحية أخرى كان إبراهيم بن محمد رابط عظيم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مصر التى أحبها وسجد على أرضها ونسبه يصل إلى هاجر المصرية، وتزوج منها، ولبس ملابسها وأثنى على أهلها.

وكأنه يستنبيء أيضاً أن مصر ستعلّم الدنيا كلها علوم الإسلام وتصدره بنقائه ومحجته البيضاء إلى كل ربوع الأرض حتى إلى الحجاز التى نزل فيها الإسلام كما ذكر مولانا الشيخ الشعراوى رحمه الله.

وكانت تسمية رسول الله لابنه من مارية المصرية "إبراهيم" أيضاً مجاملة لأهل مصر، حيث كانو أهل كتاب، والعرب لا يشتهرون بتسمية أبنائهم إبراهيم، فسمى ابنه هذا الاسم ترضية لهم ومد جسر حب بينه وبينهم.

عاش إبراهيم ابن الرسول سنة وبضع شهور يحظى برعاية النبى (صلى الله عليه وسلم) ولكنه مرض قبل أن يكمل عامه الثاني، وذات يوم اشتد مرضه، فرفعه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يقهقه (ينازع) ومات إبراهيم وهو بين يدى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فبكى عليه ودمعت عيناه وكان معه عبدالرحمن بن عوف فقال له: أتبكى يا رسول الله؟ فرد عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم): إنها رحمة "إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإن لفراقك يا إبراهيم لمحزونون "وكان ابن ثمانية عشر شهراً. وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر من الهجرة النبوية المباركة، وحزنت مارية رضى الله عنها حزناً شديداً على موت إبراهيم.

هذه الملامح كلها وغيرها تدل على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصر المحروسة.

اللهم إنى أشهدك وأشهد نبيك، أنى أحبك وأحب قرة عينى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب بلدى مصر المحروسة.

 اللهم كما ذكرتها فى كتابك، احرسها بكفايتك ورعايتك، اللهم إنَّا استودعناكها فكن لها نصيراً ومؤيداً واجعلها آمنة وارزقها من الثمرات والثروات وقها شر أعدائها وجهل الجهلاء من أهلها.

#حب مصر من الإيمان