الخميس 18 ابريل 2024

الحقيقة الغائبة

أخرى20-11-2020 | 11:01

 سعدت بأكثر من رد فعل إيجابي على مقال الأسبوع الماضي تحت عنوان "الوثيقة الغائبة".. هذا المقال الذي جاء مفتتحاً لسلسلة مقالات حول معضلة التنوير في مجتمع يفترض مباشرة أن كلمة التنوير ترتبط بمجافاة الدين ورفض العقيدة وإهمال التراث.. وهذه كلها أكاذيب بل وضلال مستطير.. فكلمة التنوير ترتبط بمجافاة التجارة بالدين ورفض امتهان العقيدة بالتفسيرات الخاطئة وإهمال ما تم الحاقه بالتراث من اجتهادات بشرية مغرضة كان هدفها سياسي تارة أو اجتماعي تارة أخرى دون احترام لقدسية الدين والأحاديث والآيات التي باتت توظف في سياقات دنيوية بحتة كمحاولة للخروج من ورطات السياسة أو السيطرة على العامة وإخضاعهم لتلك الخلافة أو غيرها في خضم صراع طويل مرير على السلطة سفك فيه المسلمون دماء بعضهم بعض ربما بأكثر مما أراقته السيوف المسلمة في الفتوحات والغزوات.

 ورأيت في معرض البحث عن الوثيقة الغائبة للتنوير في عالمنا العربي ضرورة إعادة اكتشاف ما شوه المتاجرين بالخطاب الإسلامي صورهم وأهالوا على اجتهادهم في تفسير ما جرى للمسلمين خلال القرون الأخيرة التراب باعتبارهم جزء من مشروع "علماني" يستهدف الإسلام بدلاً عن القول بأنه مشروع إصلاحي لحماية الدين من رزايا الدنيا ومن أشهر ضحايا هذا الهجوم الرجل الذي ضحى بحياته لقاء أفكاره دكتور فرج فودة رحمة الله عليه والذي ألف كتاب "الحقيقة الغائبة" كوثيقة تنوير بعد نحو 5 سنوات من صدور كتاب "الفريضة الغائبة" كوثيقة تطرف.. كتب فودة والتي من أهمها "قبل السقوط" و"الحقيقة الغائبة" تصلح لكي يستلهم منها خطوط عريضة مع إسهام مفكرين آخرين في هذا المجال في سياق البحث عن "الوثيقة الغائبة" للتنوير في مصر والعالم العربي.. هذه مقدمة كتاب "الحقيقة الغائبة" الذي كان محاولة للبحث عن التنوير الغائب أنشرها في هذا المقال كاملة :

" هذا حديثٌ سوف ينكره الكثيرون. لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون. فالنفس تأنس لما تهواه. وتتعشق ما استقرت عليه. ويصعب عليها أن تستوعب غيره. حتى لو تبينت أنه الحق. أو توسمت أنه الحقيقة. وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث. أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء. أو متوقعة للتجنى. وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستعمال العقل .

من يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء. ويستهدفون الحكم لا الآخرة. والسلطة لا الجنة. والدنيا لا الدين. ويتعسفون فى تفسير كلام الله عن غرض فى النفوس ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض فى القلوب. ويهيمون فى كل واد. وإن كان تكفيراً فأهلاً. وإن كان تدميراً فسهلاً. ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان. أن يخوضوا فى دماء إخوانهم فى الدين. أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقي الإيمان.

إن الخلافة التى نعتوها بالإسلامية هى فى حقيقتها خلافة عربية قريشية. وأنها لم تحمل من الإسلام إلا الاسم. وأن دعوى إحيائها من جديد تبدو أكثر تناسقاً مع منهج القومية العربية والدعوة للوحدة بين أقطار العرب. منها إلى الدعوة لدولة دينية إسلامية. وبهذا المنطق نقبلها على أساس كونها دعوة سياسية بحتة. إن استهدفت التوحد فعلى أساس المصلحة. وإن توجهت للتكامل فعلى أسس حضارية عقلانية. وإن استلهمت التاريخ فعلى أساس وطيد من (الجغرافيا).

إن الإسلام دين لا دولة. وعلى المحتج علينا بالعكس. أن يرد علينا بحجة التاريخ. وليس أقوى من التاريخ حجة. أو أن يعرض علينا منهجه فى إقامة الدولة على أساس الإسلام. وليس أقوى من تهافت ما قدم إلينا حتى الآن من أفكار حجة على المدعين أن الإسلام دين ودولة. ومصحف وسيف. ليس هذا فحسب بل أننا نعتقد أن الدولة كانت عبئاً على الإسلام. وانتفاضاً منه ليس إضافة له.

 

إننا نقبل فى منطق الصواب والخطأ فى الحوار السياسى. لأن قضاياه خلافية. يبدو فيه الحق نسبياً. والباطل نسبياً أيضاً. ونرفض أن يدار الحوار السياسى على أساس الحلال والحرام. حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضاً. وحيث تبعة الخلاف فى الرأى قاسية لكونه كفراً. وتبعة الاتفاق فى السياسة قاسية أيضاً لمجرد كونها فى رأى أصحابها حلال. حتى وإن خالفت المنطق. بل حتى وإن خالفت الحلال ذاته. ولم تكن أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين. ويؤازره سلطان العقيدة فى ساحة غير ساحتها بالقطع ".

هذه الكلمات وغيرها دفع ثمنها قبل أكثر من 30 سنة الشهيد فرج فودة من دمه حيث قدم روحه بسبب كشف "الحقيقة الغائبة".. أرجو قراءة الفاتحة لروحه وجزاه الله خيراً على ما قدمه لتخليص الإسلام مما علق به على يد أبنائه.. فالتنويريون أحرص الناس على الإسلام بمعناه الصافي لا بمعناه المستخدم في سوق السياسة.. سلامٌ منا لروحك يا دكتور فرج فودة وفي المقال القادم نستكمل البحث عن "الوثيقة الغائبة".