الثلاثاء 16 ابريل 2024

دور وسائل الإعلام في بناء الوعي وأسس المعالجة للخطاب الديني

أخرى15-11-2020 | 19:10

فجرت المساجلة الأخيرة بين الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة وفضيلة الدكتور أحمدالطيب شيخ الجامع الأزهر خلال مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الديني يوم 27 يناير الماضي إشكالية معالجة الإعلام للخطاب الديني ، رغم أنها كانت تتركز على الخطاب الديني فقط إلا أن تداعياتها وأساليب تعامل وسائل الإعلام معها أثارت مجددا إشكالية العلاقة بين الإعلام والدين، أو بين معالجة وسائل الإعلام للخطاب الديني أو بلغة أبسط دور الإعلام في بناء وعى ديني حقيقي. 


فالبعض من وسائل الإعلام اكتفى بالعرض الروتيني التقليدي لوقائع المؤتمر وموجز للكلمات ، ولم يبرز نقاط الاتفاق والاختلاف ويطرحها للنقاش ، بينما اعتبر البعض الأخر من الوسائل وهم قلة أن ما حدث يتضمن مجموعة من الإشكاليات التى تستحق الدراسة والبحث والطرح للنقاش العام ، بينما تجاهل طرف ثالث ماحدث تماما ، ولجأ طرف رابع إلى التسخين وتصعيد المواقف واعتبرها جزءا من المعركة ضد شيخ الأزهر أو ضد الدولة  وتساوت في هذا مواقع الإعلام الإرهابى التى استغلت الحدث مع بعض الكتابات على مواقع التواصل الاجتماعى ، بينما رآها طرف خامس أنها معركة ومؤامرة ضد الفكر التنويرى.


بينما كان المطلوب ببساطة معالجة احترافية مهنية ، تتجاوز التغطية الإخبارية البسيطة والتقليدية إلى طرح متعمق لرؤية الطرفين ومناقشتها بشكل علمى مجرد من قبل الصحف وغيرها من وسائل الإعلام والمتخصصين.


وهنا يثار السؤال المهم والملح. 


ما هو المطلوب من الإعلام في معالجته الخطاب الدينى؟


إن دور الإعلام المحورى أو المركزى في التعامل مع الخطاب الدينى والذى تنطلق منه أدوار ومهام تترجم في شكل أهداف فرعية يتركز فى الأساس في بناء وعى حقيقى للمواطن وتحصينه ضد الوعى الدينى الزائف أو تزييف الوعى وكذلك ضد تغييب الوعى وذلك من خلال التغطية الإعلامية الشارحة المفسرة المتعمقة التى تمثل ما يطلق عليه إعلام "صحافة" وإعلام العمق".  


والوعى الدينى الحقيقى يعنى ببساطة فهم جوهر الدين الإسلامى وروحه وفلسفته ، التى تقوم على السماحة والتسامح وقبول الآخر والوسطية، إضافة إلى العدالة والإنصاف ، والإسلام أيضا دين يدعو إلى العمل والبناء والوعى الدينى الحقيقى هو حائط الصد الرئيسى ضد محاولة لاختراق المجتمع من قبل الفكر المتشدد والمتطرف وأى إرهاب فكرى قد يكون مقدمة للإرهاب المادى وللعنف.

 

والوعى الدينى الحقيقى هو أيضا أداة المجتمع في مواجهة الفكر المتطرف من خلال دعم أفراد المجتمع بالمعارف والمفاهيم الصحيحة والقويمة للإسلام، ونشر صحيح الإسلام وتصحيح المفاهيم الخاطئة التى صدرتها الجماعات المتطرفة عن ديننا الحنيف.


أما الوعى الدينى الزائف فيعنى التركيز على غير جوهر الدين الحقيقى ويتضمن أيضا اتخاذ مواقف عدائية ضد الديانات الأخرى ولعل وثيقة «الأخوة الإنسانية» التى جمعت بين أكبر مؤسستين دينيتين فى العالم «الأزهر والفاتيكان»، تلخص جوهر الإسلام الحقيقى ، حيث أكدت أن الأديان ليست سببًا للصراع والتناحر، ولكنها جاءت لنشر السلام والمحبة بين جميع البشر. وهنا يبرز الدور المحورى الذى يمكن أن يقوم يقوم به الأزهر لدعم الانتماء والولاء للأوطان بين المسلمين من خلال منهجه الذى يعتمد على التعددية وقبول الآخر مشهود له خاصة عبر المنظمة العالمية لخريجى الأزهر، التى تقوم بتقديم كل سبل العون الممكنة للطلاب والطالبات الوافدين للدراسة بالأزهر فى مختلف مراحله التعليمية.


والوعى الدينى الزائف أيضا يقوم على الاستغراق فى التصدى لبعض الأمور الشكلية في الفقه والسنة والعبادات ولا يتطرق الى جوهر الدين الحقيقى، كما أن الوعى الدينى الزائف أيضا قد يتم الوصول اليه من خلال شغل الرأى العام أو جمهور المتلقين للرسالة الإعلامية بمعارك وصراعات وإشكاليات دينية وفقهية نخبوية ومعقدة على فهم المتلقى العادى غير المتخصص وعدم تقديم الاصول والأساسيات له ، وهنا يتصور المتلقى أنه يعلم جوهر الدين بينما هو لا يعلم سوى بعض الأمور الخلافية وليس لدية قاعدة معرفية لتقييمها أو الحكم عليها.


والأخطر من الوعى الزائف هو تغييب الوعى الدينى الحقيقى  لدى المواطن من خلال عزل الخطاب الدينى الذى يعالجة الإعلام عن قضايا المجتمع ، فجوهر الدين الحقيقى ومبادئه الحنيفه وسماته وقيمه الأصيلة لا تظهر إلا من خلال القضايا والموضوعات التى يشتبك فيها الدين مع قضايا المجتمع كقضايا المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية وحتى القضايا الاجتماعية والنفسية.


وفى سياق ما سبق وانطلاقا من الأدوار المنتظرة من الإعلام ووسائله فى معالجة القضايا والموضوعات والشؤون الدينة المتضمنه غبر خطابات متعددة ، وفى إطار يستوعب ويتكيف مع الواقع الاتصالى الإعلامى الراهن محليا ودوليا فى ظل الثورة الرقمية ، و أخذا فى الاعتبار الخصوصية المصرية ، أرى أن الأساليب، أو آليات المعالجة الإعلامية المتطورة والفاعلة للخطاب الدينى لابد و أن ترتكز على مجموعة من الأسس من أكثرها أهمية الأسس التالية:


الأساس الأول: أن الإسلام ليس عقيدة ودين وشريعة فقط ، بل هو دستور ونهج و أسلوب ينظم حياة الإنسان، في كافة المجالات وأن التراث هو عصارة علم وخبرات ومشكلات عاصرها العلماء فدونوها، واجتهدوا فيما ليس فيه نص، وتفقهوا في علوم الدين والدنيا من أجل مواكبة تطورات العصر.


الأساس الثانى: أن تغطية الإعلام للخطاب الدينى أو المواد الصحفية والإعلام المتصلة بالدين ليست مجرد عملية توصيل أخبار أو تحقيقات أو مقالات تعالج أحداث أو ظواهر أو مشكلات أو ظواهر ترتبط بالدين الدين ولكنها عملية فكرية متكاملة تتضمن مجموعة من الأفكار والقيم وأساليب الحياة. وصولا الى بناء الوعى الدينى الحقيقى ومواجهة أى محاولات لتزييفه.

 

الأساس الثالث: أن الوعى الدينى كأى نوع من أنواع الوعى الإنسانى ليس مجرد مجموعة من المعلومات أو المعارف المتراكمة عبر فترة زمنية طويلة ، ولكنه عملية اتصالية متكاملة ومستمرة تستند على المعلومات تؤثر من خلال تراكمها وتفاعلها لتكون مشاعر ومواقف وقيم ومعتقدات ، تتصاعد في تأثيرها لتكون اتجاهات قد تكون إيجابية أو سلبية ، تكون المرتكز لتكوين الآراء ثم المؤثر في السلوكيات وأساليب حياة الإنسان في فترات حياته المختلفة، وأثبتت الدراسات أن وسائل الإعلام تلعب دورا مهما في بناء وعى المواطن وخاصة على المستوين المعرفى والاتجاهى. 


الأساس الرابع: أن المدخل الرئيسى لمواجهة ظاهرة الإرهاب يرتكز على فضح التدين الزائف الذى يتخندق خلفه الإرهابيون وخلط الدين بالسياسة  وبيان هفواته وخطاياه وجوانبه السلبية وفضح دعاته.  


الأساس الخامس: على الاعلام في معالجته للخطاب الدينى أن يساهم من خلال العلماء والأئمة وكبار المتخصصين المساعدة في تنقية التراث من الشوائب التى لحقت به ونسبت إليه عبر العصور المختلفة.


الأساس السادس: أن من يتصدى للحديث في الشأن الدينى على منابر المساجد وكذلك في وسائل الإعلام ينبغى أن يكون على قدر من الثقافة الدينية أضافة إلى القدرة على التواصل مع الجماهير وعرض أفكاره ورؤاه بمهارة وامتلاكه قدره على الإقناع ، وهنا لابد من الإشادة بجهود وزارة الأوقاف والأزهر في تطوير نظم إعداد وتأهيل الدعادة والواعظات بالتعاون مع الجهات المختلفة ذات العلاقة وفى مقدمتها كليات الإعلام والمؤسسات الإعلامية.


إضافة لما سبق نجد أن المعالجة الإعلامية للخطاب الدينى تتطلب توافر كوادر إعلامية متخصصة ومؤهلة من الناحيتين الإعلامية والدينية ، الأمر الذى يستدعى بذل جهد أكبر في مجال التدريب على التحرير الصحفى والمعالجة الإعلامية للموضوعات والقضايا الدينية وتوظيف التقنيات الإنتاجية الرقمية الجديدة عبر الوسائط الإعلامية الجديدة.


الأساس السابع: أن المعالجة الإعلامية ( والاتصالية) للخطاب الدينى لابد وأن تغطى كافة قنوات وأنماط الاتصال بدءا من الاتصال الشخصى ، والجمعى عبر الاتصال المنبرى في المساجد والزوايا والندوات والمؤتمرات، إلى الاتصال الجماهيرى عبر الجرائد والمجلات والراديو والتليفزيون. 


وأخيرا إلى الاتصال بالجماهير عبر وسائط الاتصال الرقمى الجديد : وفى مقدمتها شبكة الإنترنت بمواقعها الاحترافية من صحف إليكترونية ومواقع إخبارية ومواقع متخصصة ، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعى السوشيال ميديا والتى أصبحت وسيلة التواصل الأولى في العالم من حيث حجم جمهور المتعاملين الذى قارب 40% من سكان العالم وتتضمن شبكات التواصل الاجتماعى وأشهرها فايسبوك ، ومواقع تبادل الصور وأشهرها انستجرام ، ومواقع تبادل الفيديو (أشهرها يوتيوب) وموقع التغريدات القصيرة (تويتر)، فضلا عن تطبيقات الهواتف المحمولة.


الأمر الذى يتطلب تأهيلا متواصلا وأكثر شمولا على المعارف والمهارات الرقمية الجديدة التى تمكنهم من التكيف مع متغيرات العصر الرقمى الجديد والتعامل مع وسائله بكفاءة ومهارة وفاعلية.


الأساس الثامن: هو الانتباه لتطورات نظم الاتصال والإعلام فى العالم ففى الماضى كان الصحفى والمذيع وكذلك الداعية وأمام المسجد وكلهم متخصصون هم من ينتج الخطاب الدينى بشكل احترافى ودقيق ومضبط. 


أما الآن فهناك وافد جديد أزاح كل هؤلاء وأصبح هو من الناحية الكمية ووفقا لمساحة الانتشار وسرعته والقدرة على التحديث المنتج الأول للإعلام عن أى محتوى ومنه محتوى الخطاب الدينى وهو المواطن العادى على شبكات ومواقع التواصل الاجتماعى على الفايسبوك ، على التويتر، على يوتيوب وهذا المواطن قد يكون متخصصا وقد يكون في الأغلب والأعم هاو أو مهتم او متحمس فقط ولكن ليس متخصصا. 


وقد يكون حسن النية وقد يكون سيىء النية، وقد يكون فردا عاديا وقد يكون تنظيما دينيا معتدلا أو متطرفا ، وقد يكون جماعة إرهابية ، وقد يكون جهاز مخابرات معادى، وقد يكون حساب زائف مصنوع من خلال انظمة الذكاء الاصطناعى. ويؤثر ما سبق على مستوى وصدقية ما يقدم من محتوى دينى ومن هنا تبدو أهمية مواجهة ذلك والتواجد الفاعل للهيئات الاسلامية على شبكة الإنترنت. 


ولابد في هذا السياق الإشادة بثلاث تجارب:


تجربة وزارة الأوقاف فموقع الوزارة تجاوز عدد متصفحيه ما يقرب من 23 مليون زائر ومتابع، ووصل عدد المشتركين عبر صفحة الوزارة على الفيس بوك ما يقرب من 1.5 مليون، ويتم ترجمة خطبة الجمعة لــ 18 لغة على مستوى العالم، وقريبا سيتم إطلاق البوابة الإلكترونية للوزارة بتقنيات عالمية.


تجربة دار الافتاء حيث أصدرت عام 2019 ما يُجاوز المليون فتوى بطرق متنوعة، شفهيّة ومكتوبة وهاتفيّة وإلكترونية، وتواصل الحديث عن طريق السوشيال ميديا.


ولأنّ الفتاوى المتشددة والآراء الشاذة أصبحت شائعة ومنتشرة، ولوحظ أن لها آثار سلبية على المجتمعات والدول، سعت الدار إلى رصد تلك الفتاوى والآراء وعمل ردّ علمى عليها ومجابهتها بالحجج والبراهين، ووضع خطط عملية للتقليل من ذيوعها وانتشارها بما يعكس النظرة السلبية للدين فيما بات يُعرف بـ«ظاهرة الإسلاموفوبيا".


تجربة مرصد الأزهر لمكافحة التطرف وتم انشائه عام 2015 ليكون عين الأزهر الناظرة على العالم، ويضم 12 وحدة تعمل بالعربية واللغات الأجنبية، ويقع على عاتقه عددًا من القضايا، أبرزها: مكافحة الفكر المتطرف الصادر عن الجماعات الإرهابية، ومتابعة أحوال الإسلام والمسلمين في أرجاء العالم ، وأصدر في 2019 أكثر من 15 كتابًا ودراسة.


وبلغ عدد المتابعات والأخبار والتقارير التي أعدتها وحدات المرصد على مدار عام 2019، أكثر من 5388 ما بين تقريرٍ يومي وأسبوعي ونصف شهري وشهري، بالإضافة إلى المجلة والتقرير المجمَّع اللذين يصدران عن المرصد شهريًّا، ووصل عددَ المنشوراتِ التي أصدرها باللغة العربية على صفحات التواصل الاجتماعي وصل إلى 654 منشورًا، و1701 باللغات الأجنبية.


وكل ما سبق يدعم جهود بناء وعى دينى عبر وسائل الإعلام الرقمية الجديدة فضلا عن رصدها لأليات الاطراف الخرى في معالجة خطاباتها الدينية وخاصة الخطابات المتطرفة والتكفيرية أو المعادية ، أو الخطابات الدولية.


*********

ختاما

إن المطلوب من الإعلام في معالجته للخطاب الدينى ألا يغفل الأسس الثمانية السابق الحديث كمرتكزات أساسية ، وأن يتوقف عن التركيز فقط على الجوانب التقليدية في الدين رغم أهميتها ويتجه إلى جوهر الدين الحقيقى ، وأن يحرص على الاستعانة بالمتخصصين عند تعامله مع التراث ومع القضايا الفقهيه المتقمقة والخلافية ، وعلى وسائل الإعلام أن تحرص على ربط الخطاب الدينى بقضايا المجتمع المختلفة وتوضيح موقف صحيح الدين من كل قضية وفى مقدمتها قضية الإرهاب والتشدد والعنف وتوظيف الدين لتدمير المجتمع وإسقاط الدولة ، وعليه أن يحذر من محاولات استدراجه فى قضايا شكلية لا تتعلق بجوهر الدين الحقيقى والتى تركز عليها بعض التيارات الدينية فى إطار أهدافها فى بناء وعى دينى يتسق مع مصالحها وتوجهاتها المتعارضه مع العصر وتطوراته والمجتمع وأولوياته وأمنه القومى.