السبت 20 ابريل 2024

الوثيقة الغائبة

أخرى13-11-2020 | 11:00

في لحظة ميلاد عقد جديد، كان هو الأخطر على العقل المصري في ظني، وفي ليلة من ليالي عام 1980، فرغ أحد أخطر متطرفي هذا الزمان، ويدعى محمد عبد السلام فرج، من تأليف كتاب حمل عنواناً لافتاً، لكنه لم يكن أبداً معبراً عن حقيقة مرامي الكتاب.. كان العنوان "الجهاد الفريضة الغائبة"، وكان يعني في طيات ما كتب فريضة الجهاد بحمل السلاح في الإسلام، وهذا مبحث شائك جداً وملغز جداً ومثار خلافات فكرية بين علماء الإسلام عبر قرون.

قرر مؤلف الكتاب تبسيط الأمر وتقديم إجابات قطعية لعقول حائرة تجعل من يعتنق هذه الإجابات في الجنة، ومن يرفضها في النار، فصار هذا الكتاب وثيقة من أخطر وثائق العقل المتطرف في مصر، وأحد مرتكزاته، في ظل سعي محموم ممن أداروا الدعوة لهذا التطرف، لدفع آلاف العناصر التي استقطبوها دفعاً نحو السلاح، باعتباره طريقًا لتحقيق مشروعهم "الإسلامي ".

 

تسارع ظهور الجماعات المتطرفة العديدة كالبكتيريا، وظهر العنف على اعتباره جهاداً يحييه ثلة من الشباب المؤمن بعد أن غيبنا نحن – المجتمع الذي فرط في الدين وأصبح جاهلياً بحكم سيد قطب- الفريضة التي بعودتها سيزدهر شأن الإسلام والمشروع الإسلامي حسب تصوراتهم، لتبدأ حقبة من أصعب ما مر علينا وليزداد تردي العقل العربي، وفي المركز منه العقل المصري بعد أن تحولت أحقاد سيد قطب إلى أفكار، وبعد أن أقنع تلاميذه بعد ذلك قطاعات عريضة من الشباب بأن ثمة فريضة غائبة لا تعود إلا بحمل السلاح في وجه الدولة الوطنية.


الدولة التي احتشد الكل حول سلاحها قبل ست سنوات فقط في أكتوبر 1973 في حرب تحرير الأرض سيكون على "الشباب المؤمن" الآن أن يستهدف جنودها وضباطها، بل ورئيسها في يوم الاحتفال بانتصار الدولة الوطنية التي انتصرت بجيش لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي، بينما كان هتافهم معاً فوق خط بارليف "الله أكبر"، كتعبير عن مجتمع لم يكن يعرف التطرف إيماناً بأن مصر تخطت كونها ولاية في خلافة، إلى كونها دولة مستقلة عبرت عن نفسها بقوة في مفاصل التاريخ، كوطن لكل مواطنيه تحترم العقائد بتقديس وترفض المساس بعلاقة الإنسان بربه، تلك العلاقة التي كانت دائماً في مصر على ضفتي النيل دافعاً نحو السلام والعلم والحضارة فعرف العالم مصر والدين معًا.

 

الشاهد أننا في 1980 قد انتقلنا مربعاً جديداً خطيراً على طريق مؤسف، حينما شاع افتراض أن الفريضة الغائبة في ديننا هي حمل السلاح في مواجهة عدو الله، في سنة كانت المخابرات الأمريكية تحشد فيها المشاعر الإسلامية في كل مكان لإرسال المجاهدين إلى أفغانستان، لقتال عدو أمريكا التقليدي الاتحاد السوڤييتي، ولذلك كان من الطبيعي أن تشيع هكذا أفكار، بل وتحظى بالتشجيع، ولكن بعد 40 سنة عرف الجميع وعرفتم وعرفنا واختبرنا بأنفسنا مسار التطرف الذي اعتمد على "التكفير"، فبات اليقين أن الفريضة الغائبة في مجتمعاتنا المسلمة كانت "التفكير ".

 

نحن عاطلون عن التفكير لعقود، نخافه وأحياناً نحتقره، وأحياناً نحاربه.


ولكن في ظل تعدد وثائق المتطرفين الفكرية التي أصلت للمنهج الإرهابي وحضرت في المشهد، فبات قادراً على الإيقاع بشباب كثير يتداولونها سراً وأحياناً علناً. غابت الوثيقة الفكرية المبهرة الفعالة والمقنعة التي تصلح لأن يجتمع حولها المتنورون أرباب الحداثة ويبينوا بها الخير الذي ينتظر المجتمع والدين بمجافاة التطرف واستئصاله.

 

 وثيقة تحقق مقاصد الشرع وغايات الدين الكبرى عن طريق الحداثة وبناء مجتمع يحترم العقل ولا يعتمد في كل شيء على النقل، لماذا لم تخرج وثيقة فكرية متماسكة تحدث نقلة، ويلتف حولها المتنورون وأرباب المشروع الوطني المصري، في مواجهة أكثر من وثيقة يلتف حولها المتطرفون، بل ويقومون بتربية صغارهم على أفكارها الخطرة فانتشرت المفارخ لعناصرهم في الزوايا والمساجد والجامعات، بينما ضمر التيار المتنور في المجتمع نحن في أمس الحاجة إلى أفكار تقود إلى وثيقة جامعة شاملة لا تستفز الشعور الديني العام أو توحي للمتلقي أنها تتناقض معه بما يدفع المتنورون لمعارك فرعية تحيد بهم عن الطريق، بدلاً عن إثبات أن الحداثة والعلم والدولة الوطنية الحديثة أقرب إلى مقاصد الشرع من الهوس الذي يسوقه المتطرفون كذباً على أنه الدين!


نحتاج إلى حضور الوثيقة الغائبة، الكتاب الباهر محل الاتفاق ونقطة الالتقاء التي تشجع على انطلاق هذا المجتمع بالأفكار قبل الشعارات في طريق الحداثة التي تحقق غايات الله فينا بالحق والخير والجمال، وكل هذه قيم بالمناسبة أثبت المتطرفون بما قدمت يداهم أنه لا صلة بينهم وبينها بأي حال من الأحوال.