الخميس 25 ابريل 2024

أيقونة أول مليونية ثقافية

أخرى21-10-2020 | 21:43

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، اضطلعت المؤسسة العربية الحديثة للنشر والتوزيع بمهمة ثقافية جليلة، كان شعارها "مشروع القرن الثقافي"، أطلقه عليها مالك الدار، الناشر الراحل الأستاذ حمدي مصطفي. وقد تجلّت الفكرة في مبادرة إصدار سلاسل "روايات مصرية للجيب"، تستهدف مخاطبة جيل جديد من القُرّاء قوامه الشباب الصاعد، من خلال تقديم كتابة سلسة وسهلة ومُشوقة، وأسعار كُتيّباتها بسيطة التكلفة وفي متناول مصروف اليد، لغَرس بُعْدٍ تربويٍّ يخلق في الشباب فكرة الادخار لأجل الإنفاق على شراء الكتب والقراءة.

* الأستاذ والعرّاب

حقَّقَتْ مبادرة "مشروع القرن الثقافي" المأمولَ منها، وحازت سلاسل "روايات مصرية للجيب" شهرتها سريعًا منذ صدور السلسلة الأولى للدكتور نبيل فاروق عام 1984، والتي حملت عنوان "رجل المستحيل"، عن بطلها الأسطوري "أدهم صبري" ضابط المخابرات المصرية، على غرار شخصية جيمس بوند ضابط المخابرات البريطانية. يتصدّى أدهم  صبري لمغامرات مثيرة وتشويقية من خلال مهام وطنية، تدور في إطار خيال ماتع يُلامس الواقع المصري والقضايا العربية، وبعضها مُقْتَبَسٌ من ملفات المخابرات المصرية. اقتحم د. نبيل فاروق عالم الأدب البوليسي بهيئته وتركيبته العالمية، مثلما طرقه من قبله الروائي آرثر كونان عام (1887) بشخصية المحقق الجنائي شارلوك هولمز، والروائي إيان فليمنج مُبتكر شخصية جيمس بوند عام (1953)، وصولًا إلى امتدادهم المعاصر: دان براون، وستيفن كينج.

حقَّقَتْ سلسلة رجل المستحيل نجاحًا مُبهرًا، ازدانت من بعده إصدارات "روايات مصرية للجيب" بسلسلة جديدة للدكتور نبيل فاروق أيضًا، تحت عنوان "ملف المستقبل"، التي تُعَبّر عن رؤى الخيال العلمي الممزوج بطابع الإثارة والمغامرة، إذْ طَرَقَ فيها بوابة عملاقة أخرى من بوابات الآداب العالمية، لم تكن تلقى اهتمامًا في الكتابة العربية، رغم أن مضمار الخيال العلمي في الأدب العالمي عُنصرٌ راسخٌ وملهمٌ منذ القدم، ومن أمثلة ذلك: الروائي يوهانس كيبلر في قصته "صومينوم" عام (1630)، والروائي جوناثان سويفت بقصص "جاليفر" (1726)، والفيلسوف الفرنسي الأكبر فولتير بقصته الخيالية "ميكروميجاس" عام (1756)، وصولا إلى الروائي "إدجار آلان بو" في مرحلة تالية في القرن التاسع عشر. 

يكمُن نجاح الدكتور نبيل فاروق في أنه تعَامل بشكل احترافي مع الأدب البوليسي العالمي والخيال العلمي، فاقتحم تلك المنطقة الشائكة، وتواجه مع هذا الجسد الأدبي الأوربي القديم، ثم سلخ جلده من فوق عظامه، وامتص نخاعه، وجعله حبرًا للقلم العربي. وهكذا ابتعد عن النقل من الأدب البوليسي الأوربي البحت، ومنحه خصوصية الهوية الشرقية والانتماء المصري الوطني.

وفي عام 1993، انْضَمَّ د. أحمد خالد توفيق إلى كُتّاب الدار (المؤسسة العربية الحديثة) بسلسلة جديدة حقَّقَتْ رَوَاجًا مُذهلًا، صدرت بعنوان "ما وراء الطبيعة"، وهي قصص تحمل طابع الرعب والغموض، ومن خلالها استقدم د. أحمد خالد توفيق إلى الكتابة العربية والمصرية صنفًا أدبيًّا أصيلًا وقديمًا في الأدب العالمي، ألا وهو الأدب القوطي أو أدب الرعب الذي ينتمي إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، أبرز أمثلته: "قلعة أوترانتو" لهواريس والبول عام (1765)، "أسرار أودفلو" للروائية الإنجليزية آن رادكليف عام (1794)، "فرانكنشتاين" لماري شيلي عام (1823)، "دراكولا" لبرام ستوكر عام (1897). ومن خلال إعادة تأويله للنصوص التاريخية، قَدّمَ أحمد خالد توفيق نوعًا جديدًا على الكتابة المصرية والعربية بوجهٍ عام. وشأنه شأن الأدب البوليسي والخيال العلمي، فإن هذا اللَّون من الآداب العالمية - الرعب – كان مُهملًا في الكتابة العربية.

باستقراء رحلة "روايات مصرية للجيب" المُمتدة زُهاء ربع قرن (1985-2010) نرصُد استخلاصًا مُهِمًّا، هو أن أساطين الفكر وعمالقة الأدب العربي الحديث - سواءً من الرعيل الأول أو من الجيل الوسيط - لم يقدموا الأدب البوليسي أو الرعب كإنتاج نوعي خالص، رغم أنه من أعمدة الأدب العالمي التي أبدع فيها مؤسسو الرواية العالمية، رغم أن الذهنية المصرية والتربة الثقافية مؤهلتان لقبوله والتفاعُل معه بشكل كبير، إذْ جاءت إرهاصات أفكار الخيال العلمي في ألف ليلة وليلة، كما وردتْ في بعض كتابات "ابن النفيس" في القرن الثالث عشر الميلادي، فضلًا عمَّا تزخر به محكيّات الرعب في التراث الشعبي وحواديت الأجداد، والتي تُعَدُّ بذاتها ميثولوجيا (أساطير) عربية مثل: حكايات ملوك الجن، والعفاريت، والندّاهة، وأبو رجل مسلوخة، وأُمنا الغولة. بهذا يكون د نبيل فاروق (الأستاذ)، ود. أحمد خالد توفيق (العرّاب) لهما السَبْق في ارتياد هذه المناطق الأدبية الوَعرَة، ضاربة القدم في أوربا، والغريبة تمامًا على الكتابة العربية.


* كاتبان لمليون قارئ

يَذكُر المهندس مصطفى حمدي مصطفى، صاحب المؤسسة العربية الحديثة أن طباعة أعداد رجل المستحيل في مطلع ومنتصف التسعينيات بلغتْ - بحد أدنى - مئات الآلاف من النسخ للعدد الواحد في "الفَرشة" الأولى بالمكتبات، خلاف ما كان يُعاد طبعه عدة مرات، وبذات الأعداد تقريبًا فيما بعد، بما كان يستهدف إجمالًا مليون قارئ في أقل تقدير. وقد حققت الأعداد الخاصة التي جمعتها المؤسسة مؤخرًا لرجل المستحيل وملف المستقبل مبيعات مئات الآف من النسخ، وأقبلت مختلف الأعمار على شرائها بكثافة.

نُضيف إلى ما ذكره المهندس مصطفى حمدي أنه في ذلك التوقيت - الثمانينيات - كانت هناك أسماءٌ أدبية ثقيلة، يتقدمهم الكبار: بهاء طاهر، إبراهيم عبد المجيد، خيري شلبي، جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان، صُنع الله إبراهيم، كانوا يُقَدّمون روايات رفيعة فنيًّا، توصف بأنها أدبٌ من العيار الثقيل، يحمل هموم وآمال الوطن الكبرى، ويتخذ شكل الرواية والقصة الأيديولوجية أو الرمزية، والإيغال بهما في دروب الواقعية الاجتماعية والسياسية. هؤلاء الكبار كانوا يُبدعون ويحصدون الجوائز العربية والدولية، وتُفْرَد لأعمالهم دراسات نقدية متوالية، ويُتَابعهم شريحة من القراء الكِبار، المحترفين وأشباه المحترفين، ممن نهلوا من أدب وفكر العمالقة عباس العقاد وطه حسين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس. وما يسترعي الانتباه هنا - من خلال نسب المبيعات - أن الكُتَّاب الكبار يكتبون إلى إجمالي من القُراء لا يُجاوز بضع عشرات من الآلاف، وهذا عدد قليل لا يتناسب طرديًّا مع عدد الكُتّاب الذين يقدمون إنتاجًا أدبيًّا. في الوقت ذاته - وبمبدأ النسبة والتناسب - تظهر نسبة أخرى غير منطقية، إذْ نجد كاتبين (د. نبيل فاروق، د. أحمد خالد توفيق) يكتبان وحدهما إلى مليون قارئ، بل ويستحوذان على كامل شغفهم وتقديرهم.

هذه النسب - غير المنطقية - ينبغي اعتبارها ظاهرة تستوجب التأمل من وجهين: الأول أنه في مطلع الثمانينيات قد تم تَخليق جيل موازٍ من القرّاء، نما وتزايد واتسعت قاعدته، وتَشَكَّلَ وجدانه الثقافي والفكري مع ما يقدمه نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق. الوجه الثاني أن النُّقاد والمثقفين وبعض الكُتَّاب لم ينظروا إلى أعضاء تلك القاعدة العريضة باعتبارهم قُراء حقيقيّين؛ فمن وجهة نظرهم أن الشاب الذي يقرأ كُتيّبًا مقاسه صغير الحجم (12×16) ومكتوب عليه روايات مصرية للجيب، لا يُعَدُّ قارئًا أو لديه نصيب من أي ثقافة. وبالتبعية لم يُلتفت إلى نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق بعين التقدير، ولا إلى ما يكتبانه رغم جودة وإتقان وثراء ما يقدمانه للشباب، وأيضًا لم يتم اعتبار ما قدمّاه للأدب العربي تطويرًا لاحقًا فات أوانه باستلهام جديد، بل تَمَّ إخراج العملية برُمتها من تصنيف الثقافة والأدب، وبالتالي خرجا من المنافسة والاعتراف التي تتيح لهما الدخول في حلبة النقد الأدبي .

وهنا يطفو عل السطح تساؤل: هل هي مجرد طفرة مبيعات تجارية؟ أم إنها كانت إيذانًا بحدوث طفرة وشيكة في الأدب؟ رَدًّا على هذا التساؤل كان ظهور الكاتب أحمد مراد على الساحة الأدبية عام 2007، في ثوب أدبي مثل الكبار، أصدر عمله الأول "فيرتيجو" على نمط الرواية البوليسية العالمية، وبذات الخصوصية المصرية التي كافح د. نبيل فاروق لنحتها خلال مسيرته، ولكنها لم تأتِ في حجمٍ "مسخوطٍ" للجيب كما أطلق عليها جمهرة المثقفين وقت ظهورها، ولم يكن مكتوبًا عليها "روايات مصرية للجيب"، وإنما تَزَيَّنَتْ بين دفتي كتاب مُعتبر، مكتوب عليه "رواية"، وبحجمها الطبيعي مقاس(17×25).

* الأيقونة

بمرور الزمن، لم يَعُدْ لسلسلتي "رجل المستحيل" و"ملف المستقبل"، سوى قوة القصور الذاتي، ولم يَعُدْ يتبعهما المليون قارئ إلّا على سبيل الوفاء والحنين إلى الماضي صنيعة الأستاذ والعرّاب، وظل ذلك إلى حين، حتى تشتَّت الجمع وانفلت زمام المليون قارئ، ولم يجدوا في الروايات والقصص الواقعية الإشباع الكامل الذي اعتادوه، فالجُرعة الأدبية في روايات مصرية للجيب - علي ثرائها – كانت مبتسرةً بحُكم حجم الكتيب وتسعيرة عرضه في الأسواق، فكانت رابطة محبي الأستاذ والعرّاب مآلها إلى الزوال بعد ثلاثين عامًا من عطائهما. 

هذا الإرث الثقيل - بكل طموحاته وأمانيه ورؤاه – كان لا بُدَّ له من بطل يحمله، فكان أن انشقت عتمة الساحة الأدبية عن فارس أدبي جسور يمتشق قلمًا رشيقًا، متسلحًا بلغة جديدة وحبكة متينة، يُعَبِّر عن طموحات المليون قارئ، بأدب وافد على الفكر العربي، لكنه مصري خالص، لا ينفصل حبله السُّري عن أعرق وأقدم فنون الأدب العالمي، ومُتَحَدِّرًا  - في الوقت نفسه - من مدرسة الأستاذ والعرّاب. وببصمته الخاصة يقدم رواية متكاملة، بأبعادها النفسية واللغوية، تنافس روايات الكبار، وترقى إلى مصافّ الروايات العالمية، لتفوز رواية فيرتيجو بجائزة البحر الأبيض المتوسط الدولية، وتليها الفيل الأزرق، وهي من وجهة نظري الرواية القوطية الأولى في الأدب العربي الحديث، لتصل بزخم كبير إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، ثم يفوز أحمد مراد مؤخرًا بجائزة الدولة للتفوق عن مجمل أعماله الأدبية. وقد دفع به المليون قارئ باعتباره أيقونةً لأحلامهم وامتدادًا لمشروع الأستاذ والعرّاب، وحملوه فوق أعناقهم قائدًا لأول مليونية ثقافية صاخبة، بمبيعات أكثر من مليون نسخة رسمية من دار الشروق لرواية الفيل الأزرق، ليتمكن من تحقيق معادلة القراءة الصعبة التي اجتذبت جيله، واستقطبت الأجيال الصاعدة، وهم القراء المحتملون لروايات مصرية للجيب في حالة وجودها.

يقدم أحمد مراد – الأيقونة - أدبًا مرموقًا تاريخيًّا وعالميًّا بلونه المصري على طريقة أساتذته، احتل به موقع الصدارة الأدبية الرفيعة، ورغم ذلك لم يسلم، لكنه تصدّى بجسارة لسهام النُقاد بصدر عارٍ، فتح أمام أبناء جيله هاويس الكتابة المتحررة من أغلال الأيديولوجيا والواقعية البحتة، بعدما نسف تابوهات قديمة حفرت في الأدمغة لثلاثين سنة أن مثل تلك النوعية من الأدب مجرد أدب مراهقين، ولا مكان له سوى الكتيب مقاس (12×16).

إيمانًا من الكُتَّاب الكبار بأهمية المشروع الفكري الموسّع لأحمد مراد، المستند باقتدار إلى جذع شجرة كافور شامخة من الأدب القوطي والبوليسي، لَقِيَ احتفاءً من الأستاذ "صُنع الله إبراهيم"، إذ خرجت رواية فيرتيجو مؤيدة بكلماته العزيزة، عن كونها أدبًا جديدًا على الأدب العربي، وفي تراب الماس أكد صنع الله إبراهيم تفوق مراد مرة أخرى على نفسه.

ما زال مشروع جيل بأكمله يتحقق، وقد تحدّث أحمد مراد نيابةً عنهم، ووضع اللبنة الأولى في حجر أساسه، ثم تقدّم صفوف عشرات الروّاة المتميزين ممن خرجوا من عباءة الأستاذ والعرّاب، ليتبعوا الأيقونة – مراد - بعدما لوّح لهم بمشعل لهب وهّاج، اقتدح نار فكره وإبداعه. 


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 48 - سبتمبر 2020

    Dr.Randa
    Dr.Radwa