الأربعاء 24 ابريل 2024

الخطاب الإلهى الجميل والخطاب النرجسي

مقالات21-1-2022 | 11:41

الجمال ليس صفةً للكائنات أو الماديات فقط، بل هو أيضاً صفة للمعانى والأخلاق، وإذا كان جمال المادة يُدرك بالحواس الخمسة -البصر أو الشم أو الذوق أو السمع أو اللمس- فإن جمال المعنى وجمال الخلق يدركان بحاسة سادسة ألا وهى البصيرة.

والبصيرة أصدق إدراكاً من البصر، لأنها لا ترى سوى الحقائق، بينما البصر يمكن خداعه فيرى السراب ماءً.

قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) سورة النور.

 

ولقد وصف الله تعالى فى كتابه العزيز ثلاثة أخلاق بالجمال، وأمر الله تعالى وهو مصدر الجمال، النبى محمد صلى الله عليه وسلم نبى الجمال بهن: 

فقال تعالى:

1- فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)  سورة المعارج

2- وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) سورة المزمل.

3- وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)  سورة الحجر

 

والصبر الجميل هو صبرُ على الابتلاء برضا، وبدون شكوى بالثقة فى الله تعالى وحسن الظن به.

والهجر الجميل هو أن تهجر من أذاك بلا أذى.

والصفح الجميل هو أن تعفو عمن ظلمك بدون رواسب حقد أو ضغينة فى قلبك.

ورغم أن هذه الأخلاق الثلاثة تواجه مصاعب ومتاعب وأذى الناس، إلا أن الله تعالى أوصى بالجمال حين يطبقها الإنسان حتى تتحول الأزمات الإنسانية إلى رحمة ومودة بين الناس.  

كما أوصى رب العالمين سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتعاملوا مع غيرهم بالتى هى أحسن، ومصطلح "بالتى هى أحسن" تطبيق عملى لخطاب الجمال فى القرآن الكريم.

قال تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) "سورة العنكبوت

وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }   [فصلت 34 - 35]

وعلى مستوى خطاب الوعظ والدعوة إلى الله، أمر من يؤدون هذا الخطاب بالجمال فى الأداء بمستويات الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن .

فقال تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)  سورة النحل.

ولن تجد فى القرآن أو السنة أمراً للعلماء بممارسة الخطاب الغليظ، أو حتى خطاب الكبر والاستعلاء ..بالعكس، هناك نهى عن ذلك.

قال تعالى: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) سورة آل عمران.

 

وأما من  جانب التكوين النفسى والعلمى لشخص الواعظ أو العالم، فاسمحوا لى ذكر تجربتى الشخصية بقصد الإيضاح، والله هو العليم بذات الصدور.

بدأت رحلتى الدعوية وأنا لم أتجاوز الثانية والعشرين من عمرى، حيث كنت  أرتدى الزى الأزهرى وأخطب الجمعة وأُدَرس وأُحاضر، وكان كبار السن قبل صغار السن يُنادوننى بالشيخ الجليل -كعادة المصريين فى احترام علماء الأزهر- فعشت حالةً من الجلال والتقدير بناء على معاملة الناس دون وعى.

شاب فى الثانية والعشرين من عمره يحافظ على هيبته، فيتنازل عن كثير من الجوانب الإنسانية، بل ومن حقوقه أيضاً حتى يدافع عن الهالة الكبيرة التى يعيشها أو التى وُضع فيها .

فكانت هناك حواجز نفسية كبيرة بينى وبين بعض جوانب الحياة حتى أحافظ على جلال وهيبة مظهرى الذى بات مقصوداً وهدفاً بالنسبة لى، بناءً على البرواز الذى وضعنى فيه المجتمع.

فكنت أعتمد على صوتى المرتفع للتأثير فى الناس، بجانب الكلمات المتقعرة التى توهم المستمع أننى من الشيوخ الأفذاذ.

وخلال تجربتى الشخصية لوعيى بذاتى، أدركت الجريمة التى أمارسها أنا والسواد الأعظم من العلماء والوعاظ، ونحن نحدث الناس عن الله ورسوله والقرآن والمحجة البيضاء.

حيث شعور الشيخ بالجلال والمهابة الشخصية الزائدة عن الحد تورث النفس كِبراً  خفياً -لا يدركه صاحبه- فينتفخ فى نفسه ويظل طيلة وقته يدافع عن نفسه وصورته الفخمة فى أعين الناس حتى يصل إلى درجة إدمان النرجسية، وربما ينسى الدفاع عن هيبة الإسلام لكن لن ينس الدفاع عن هيبته باسم الدفاع عن الإسلام.

ويترتب على ذلك ما يلى  

1- خطابه الدينى سيغلب عليه خطاب الترهيب والتخويف باسم الدين -مع الوضع فى الاعتبار الفرق بين الخوف والتخويف، حيث لا يوجد فى الإسلام مفهوم التخويف بل يوجد مفهوم الخوف وهو يورث الخشوع- أو فتاوى تصنف الناس فى دينهم أو أخلاقهم .

أو سيتحدث عن ما يطلبه المستمعون وما يحبون سماعه، حتى يحافظ على شعبيته ومريديه، ولن ينضم إلى النخبة التى هى بمثابة الطبيب المعالج لأمراض المجتمع الخلقية والفكرية .

وهذا يفسر الجدليات الدينية التى يثيرها بعض الشيوخ بقصد الإثارة ولفت الانتباه من حين لآخر، وظاهرة الدجل الدينى.. إلخ.

2- خطابه سيكون من أعلى إلى أسفل.. يعنى يعتقد جازماً أنه أفضل من المصلين والمنصتين لخطابه، ولسان حاله يقول: تعالو ا.. أوصلكم إلى الله لأنى وصلت.

3- سيطرد الكثير من رحمة هيبته النرجسية باسم الله، وعندما يختلف معه أحد سيتهمه بالفسق أو الجهل على أقل تقدير، ولن يتسامح أو ينصت لمن اختلف معه .

4- سيحرص على تسليط الأضواء والكاميرا على جلالته ليلاً ونهاراً، وسيعلن  الحرب المقدسة على من يفكر فى إبعاده عن الأضواء.. إلخ.

إن إدراك هذا الجانب النفسى والتكوينى عند من يؤدون الخطاب الدينى جزء كبير من الإصلاح الدينى المنشود ، حتى يكون  الخطاب خطاب جمال "ترغيب - تواضع - رحمة- تسامح- قدوة".

ولا مانع من استخدام الترهيب "الجلال" إن احتجنا إليه للسيطرة على طغيان النفس البشرية،  فى إطار تزكية النفس والانضباط الشخصى، ولكن خطاب الجمال هو المناسب كمدخل من مداخل الشباب المعاصر. 

وبعد ما أدركت تلك الحقيقة وجدتنى أتعلم من المختلفين معى، كما أتعلم من المتفقين معى ، وأرى الإنسان إنساناً حتى وإن كان يعبد وثناً، واكتشفت المفتاح الوحيد لكل البشر، مفتاح الإنسانية .

وبدأت أشفق على أساتذتى الذين يدخلون معارك طاحنة للدفاع عن جلالتهم باسم الدفاع عن الإسلام، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وللأسف لا يقبلون مضمون هذا المقال .

وفهمت جيداً مقصود كتاب الله وسنة النبى محمد صلى الله عليه وسلم .

فهل سندرك الأجيال القادمة من أبنائنا الوعاظ ونقوم بتدريبهم ووضعهم على الطريق الصحيح؟ أتمنى ذلك.

والله المستعان.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa