السبت 20 ابريل 2024

حديث النفس.. الخيط الرفيع!

مقالات11-11-2021 | 11:10

داخل كل واحد منا خيط رفيع يلف كل مكنونات نفسه بين الشيء ونقيضه.. قد يختلط ليعقد لنا الأمور ويربكها.. قد نتأرجح فوقه ونصعد ونهبط.. نقترب ونبعد لنتجاوزه.. قد نتوه وقد نصل ولكننا حائرون.. نتعلم من تجاربنا ألا نتجاوزه.. فلا نخلط بين واقع نحياه ووهم وخيال صنعناه في عقولنا نذهب فيه لراحة نفسية من صنع خيالنا.. ومنا من تنبه وعلم أن الخيط الرفيع في حياتنا هو ما بين العبقرية والجنون والضحك والحزن والحب والتملك والتواضع والامتهان والكرامة والغرور والموت والحياة.. هو تلك القشرة الرقيقة بين الواقع والخيال!!

حياة الإنسان ليست بالأمور السهلة التي نراها ظاهرة لنا جميعا على الرغم أن الظاهر ما هو إلا نتاج لأمور مركبة ومعقدة من مجموعة من الحقائق الملموسة والخيال المرتبط بها أو حتى غير المرتبط بها الناتج عن عوامل بيئية موجوده حول هذا الإنسان تدفعه أو تغيره باقتحامها له، لسنا على نفس الدرجة من التوافق في رؤية الحقائق الموجودة حولنا فحتى الأحداث يراها كل منا بمنظوره وروايته لها تكون من وجهة نظره ولذلك ترى كثير من الحقائق تكتشف مع الزمن ولا عجب في ذلك فكلنا لديه التفسيرات والتحليلات التي تتوافق مع ما يتولد في عقله بخلفياته التي شكلها.. ولا أحد يرغب في مواجهة الحقيقة حتى لو فرضت عليه في صورة صادمة فالكثير منا ما يقابلها بالأنكار وينتهي به الأمر إلى أن يتعايش معها في صور مختلفة حتى يألفها ويتعود عليها ويغلب على العقل الإنساني التحرك نحو الأوهام.. فغالبا كل خطواتنا في الحياة تبدأ بوهم أو ما يسميه البعض بالأحلام والتصورات الوردية عنها على الرغم أن هذه الأحلام قد تكون دافعا لاستمرار الحياة إلا أنه يجب أن تكون معززة بعوامل تحقيقها وإلا تحولت لوهم قد يعيشه صاحبه وحده ويتصور فيه أنه البطل كما يحدث في حالات كثيرة من أحلام اليقظة غير الصحية.

فتجد نفسك على مدار حياتك دافعك الأساسي لخطواتك هي الصورة الوهمية التي رسمتها لهذه الخطوة وأبرزها تلك العلاقة الوردية لفترات الحب والخطوبة التي تنتقل لواقع بالعلاقات الزوجية قد يكون أسوأ ما يكون أو علاقة واقعية بها مشكلات ومنعطفات لعب فيها الخيال والوهم دورًا مما تسبب في خلق المشكلات.. بعدها قد يتكيف الإنسان مع الواقع ويتنازل عما هو موجود في مخيلته وهو الأفضل بالتأكيد لاستمرار الحياة، وقد ينسحب إلى النموذج الخيالي وتفشل العلاقة.. فدائما الوضع ملتبس بين الواقع والخيال.. وحينما نسلم بالحقائق ونقرر أن نتعايش معها تكون بسبب ملاءمتها لتلبية حاجاتنا النفسية من خلالها.. فعقولنا شكلت من أحاسيس ومشاعر تشكل قيودا حاكمة علينا في القبول أو التعامل مع الحقيقة قد تصل مع البعض لأن تكون هذه الأوهام أكبر من الواقع فقد أصبح العقل بموروثاته حائلا أمام قبولها وأصبح الوهم بالنسبة له الواحة التي يرغب العيش فيها التي يدافع عنها طوال الوقت.

فالعقل البشري يستمد تفسيراته للحقائق من حواسه الشخصية والوسائل البيئية الأخرى المؤثرة فيه التي تخلق التفكير غير الموضوعي لإشباع رغباته الإنسانية.. حتى الرغبات التي يخلقها الإنسان لنفسه ويبحث عن تحقيقها فى الواقع تجد أساسها أوهاما وخيالات في عقله وليس معنى الأوهام في هذه الحالة أنها أمورا مرضية لكنه وقت أن قرر أن تكون كل اهتماماته ويضيع كل وقته وعمره في تنفيذها قد يكتشف بعد مرور الزمن أنها كانت أوهاما لا تستحق كل هذا العناء، وقد تصل معه أنه يرتكب من الأخطاء في تحقيقها ما يضخم من حجم كونها أوهامًا.. ولكن لا ننسى أنه يبحث عن السعادة وربما توهم أنها السعادة الكاملة وأخذ يُلقي على نفسه أعباء وفواتير ضخمة في سبيل تحقيقها.. والأمثلة عديدة.. منا من يرغب في تحقيق سلطة أو نفوذ أو ثروة طائلة أو حتى تحقيق حلمه بالارتباط ببعض الأشخاص وبعد تحقيقها لا يرى فيها السعادة ويكتشف أنها كانت أوهامًا أضاع عمره في سبيلها.. وإن لم يحققها فإنها تظل أوهامًا يضيع عمره في التعلق بها! والنتيجة واحدة ننتقل من وهم لوهم سواء تحقق أم لا دون أن نعلم!

وقد يصيبنا الوهم في مبالغات في سلوكيات بريئة فتتحول للنقيض دون أن نشعر لمجرد أننا نسينا الخيط الرفيع في هذه العلاقات ونصاب بالصدمة بعد تجاوزنا للحد الفاصل.. فحتى الانخراط في الصفات الجيدة قد يأتي بأثر عكسي لتحل محلها صفة أخرى فمن يغالي في التواضع قد يذل نفسه والطيبة وحسن الظن يصاب بالسذاجة والثقة بالنفس بالتكبر والخلاف بالكراهية وغيرها.. فالنجاح يكمن في معرفة الإنسان لقدراته والتحلي بالقدر المتوازن من الصفات الجيدة ولن يكون ذلك إلا باحترام قدسية الخط الفاصل.

ولكن أشد الأمثلة غرابة والتي تسترعى اهتمام الكثير حتى من علماء النفس هو أن يتحول الحب لكراهية حينما يزول الخيط الرفيع بين الحب والتملك فيرى أحد طرفي العلاقة الحب في التحكم والسيطرة فيتحول بفعل هذه القيود لكراهية ورغبة أكيدة وأمنية غالية في الفرار من هذا الحب الأناني.. وفي الحقيقة التملك ليس العرض الوحيد للعلاقات الفاشلة المؤذية، فهناك حالة أكثر قسوة وهي الشك والغيرة فترى أحد الطرفين يتشكك في زوجته أو شريكته ويتلصص عليها حتى أنها تكون الشغل الشاغل له طوال الوقت وحتى في حالة انعدام الدليل تجده يتهمها بالخيانة وتفسير كل تصرفاتها على هذا النحو وتتحول البيوت لثكنات جاسوسية.. ويصبح تمسكه بزوجته من أجل تعذيبها ويحاول إثبات أوهام الخيانة بأي شكل محاولا إشباع رغباته في تمسكه بها لتعذيبها.. وهذا الشخص صاحب خيال مريض يرفض العلاج ويوهم الطرف الآخر بأنه مريض بحجة أن الأدلة موجودة ولا يراها!

ولا يخلو أي أمر من أمور حياتنا من ذلك التشابك الموجود بين الوهم والواقع أو الحقيقة فهو الفخ الذي يقع فيه الإنسان بسبب طبيعة عقله التي إما تدفعه لاكتشاف الحقائق أو الهروب منها حسب راحته النفسية فلسنا كلنا على نفس المستوى من المواجهة وقبول الحقائق الصادمة ففي حالات كثيرة ما تكون الصدمة هي أفضل العلاجات لتقبلنا للحقائق على الرغم من غياب الاعتراف بها في كثير من الأحيان.

وعلى الرغم من أن العقل البشري على مدار رحلته الإنسانية كان مليئا بمن اهتموا بفك طلاسم الواقع والوصول لحقائق ثبوتية عديدة، ولكنها حقائق موجودة حولنا كتلك الموجودة في الطبيعة والكون واعتمدت على الحسابات الفيزيائية.. لكن ما يخص الحقائق والطبائع الإنسانية فلا قاعدة أو اتفاق عليها حتى الفلاسفة اختلفوا حول تفسيراتها، فتتحكم في الطبائع الإنسانية قيود عديدة منها المعلن ومنها المخفي مثل الذات والأنا وأخرى مثل المجتمع والبيئة مما يخلق تشوهات حسية تتولد معها الانتقادات الخاطئة التي تصل لرفضها لدلائل دامغة.. فيصل به الأمر أحيانا للتسليم والتجاهل وخاصة في ظل غموض الواقع وعدم القدرة على فك طلاسمه، مما يدفع الإنسان للانفصال عن الواقع والوقوع في الوهم.

وقد يسعد الإنسان بالخيال الذي يراه في الأفلام والروايات وهنا يسمى خيال الكاتب وقد يصل الأمر بالبعض إلى تصديق هذه الأدوار والنماذج المجسدة في هذه الأعمال على الرغم أن خيال الكاتب لم ينفصل عن الواقع إلا أنه أضاف خيالا من التضخيم أو التهويل أو قد يسير لأبعد من ذلك إلى خلق صورة مثالية غير واقعية يظن البعض وجودها.. وكثير منا من يتصور نفسه داخل هذه الأعمال ويريد أن يحصل على الجزء الخيالي لأموره الواقعية.. وقد يؤثر هذا الأمر بالسلب على الكثير من أصحاب المشاعر المرهفة التي لا تتقبل سوى الخيال.. فكثير من الأعمال الفنية الشهيرة ما حققت نجاحًا بسبب إتقان الجزء الخيالي فيها الذي كان اختراعًا من كاتبه.

لسنا كلنا طلاب حقيقة في أمور حياتنا لا نتخطى الخيط الرفيع بين الحق والباطل.. نرغب في الحقيقة من الآخرين وأكثر منها قول الحق إذا ما تعلق الأمر بشؤوننا وتحقيق مصلحة لنا.. ونبتعد عنها، بل نرفضها ونعادي من يواجهنا بها إذا ما تعارضت مع رغباتنا فتتحول الصراحة وقول الحق إلى وقاحة طالما ليست في صالحنا.

فداخل أنفسنا خيالات وأوهام قد نبوح بها وقد نخجل منها.. ومنا من يتمنى تحقيقها أو حتى يسير وراءها.. ومنا من يعيش عمره كله في تحقيق أحلامه لواقع، لكنه يندم بعدما اكتشف أنه انتقل من وهم لوهم.. ومنا من علم أن الحياة أوهام نتعلق بأسبابها ونعيش في رحابها لننتقل لحقيقة أبدية هي الحياة الأخرى.