الخميس 25 ابريل 2024

حديث النفس.. هكذا نحن بين ضجيج وصمت!!

مقالات29-10-2021 | 13:33

كم من ضربات موجعة فى حياتنا نكون فيها ما بين ضجيج وصمت قد تفضحه الدموع.. وقد يقاومه الكبرياء بضجيج صمت لقلب مكسور يتألم.. فيبدو هادئا هدوء الأموات.. فقد يموت ما بداخلك ولا ترتاح لأنه موت يعقبه بعث مستدام.. فالأموات هادئون لكن يشعرون.. والأمواج صاخبة وما فى عمقها لا يعلمه إلا الله وحده.. نأخذ بالظاهر ويظل الباطن ملك صاحبه وحده أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين.. إنه الصمت الذى يخفى وراءه أمورا عديدة قد يكون حزنا وقد يكون مكرا أو جبنا نحتاج معه لضجيج الصادقين!!

نصف مظاهر الحياة التى نعيش فيها بالصخب والضجيج الذى يزعجنا ويؤثر على هدوئنا النفسى على الرغم أن ضجيج الحياة هو الذى صنعها فى بحث مستمر عن أسبابها وسعى الناس وراء لقمة عيشهم إن لم يكن الضجيج مظهرا له، قد يكون هو عملهم أو الإعلان عن عملهم وتسويقه لجذب الانتباه والحصول على أقصى سعر.. فكم من باعة جائلين فى الأسواق لا تلتفت إلى بضاعتهم إلا حينما ينادون عليها بفنون صاخبة، تجعلك لا تستطيع أن تستغنى عن شرائها.

وليس الباعة الجائلون فقط هم من يلفتون النظر والانتباه فى الأسواق.. فحياتنا ومجتمعاتنا أسواق تجذب المشترين والمستهلكين ولكن لكل صخبه وضجيجه، الذى قد يصل الأمر معه أن يطغى على من يعمل فى صمت فلا ينجذب أحد إلى عمله المتقن لأنه لم يعلن عنه وعن نفسه.. فهنا وهناك أناس يعملون على الترويج لأعمالهم البسيطة أو حتى التافهة ليحصدوا مكاسب أكبر من حقهم ليس لتغفيل المشترى ولكننا نميل دائما للانخداع بالمظاهر ولا نبحث عن المضمون والمحتوى الثمين الذى لا يملك قدرات التسويق لنفسه.

 وليس فى الأعمال فقط، بل إنه على مستوى الأشخاص أيضا فتجد الذين يسببون الضجيج والصخب هم من نلتفت إليهم وقد نبتعد ولا نرى الصامتين الذين قد يعملون بعيدا عن ضجيج الأقل مهارة منهم.. لكنه فى نفس الوقت نجد الكثير منا ما يميل للثقة فى التعامل مع الصامتين الذين لم يخرجوا مكنوناتهم الحقيقية أو حتى يكشفوا عيوبهم بالثرثرة والكلام الكثير، فالانطباع الذى يكون لدينا أن الصامت وقور وعاقل وذكى حتى إن لم يكن هكذا.. فنمنحه هذه الصفات على اعتبار أنه يجيد سماع الآخرين لدرجة أنهم يذهبون إليه طالبين النصيحة والمشورة وقد يكون الصمت فى نفس الوقت خداعا للمكر أو الجبن دون الإعلان عن مواقف فى مواجهة أو صدام.. لكننا نتحرك من خلال انطباعاتنا ورصيد خبراتنا إلى أن تثبت التجربة العكس لأننا فى بيئات أعمال تميل للعشوائية أكثر من الانضباط فقد يحصل صاحب الصوت العالى الذى لا يعمل أو محدود الكفاءة على حقوق أكثر من الذى يعمل فى صمت.. لكننا نناقش فكرة الضجيج والصمت، سواء كانت رابحة أو خاسرة للشخص وعموم الناس المشاركين له والمتعاملين معه.

والحقيقة أننا فى حياتنا لا يمكن أن نتخلى عن مظاهر الصخب والضجيج، وكذلك الحاجة للسكون والهدوء.. فتتقلب فيها أحوالنا ما بين النهار معاشا والليل لباسا.. فاحتياجات الإنسان يلبيها مثلما خلقها الله ما بين نهار للعيش والكسب وليل للهدوء والسكون والراحة.. فنتأرجح بين هذا وذاك حسب ميول الأشخاص التى تحدد الدرجة التى يشعر معها بالراحة النفسية من كلا النقيضين ليكمل كل منهما الآخر فى كل واحد متكاملا.

 وترى التجارب الإنسانية التى يمر بها الإنسان فى حياته تدفعه للاندماج فى صخب الحياة أو الابتعاد والصمت الذى لا يخلو من ضجيج نفسه الذى يسيطر عليه فى أمور عديدة حتى ولو كان شخصا اجتماعيا يسعد بالاندماج فى المجتمع المحيط به قد يكون أكثر الأشخاص صمتا فى حالات حزنه.. فتجده لا يحركه ضجيج من حوله ويدفعه السكون الذى بداخله لتمنى سكون هذا الضجيج الذى يقطع عليه حزنه الصامت الذى استسلمت له نفسه وربما لا يسمع أو يشعر بضجيج من حوله، فضجيج حزنه داخله أصاب مسامعه بالصمم.. فهى حالته التى استسلم لها ولا ينفع معها أى ضجيج خارجى فيكفى لنفسه ضجيجها حتى ولو كان مؤلما فما عاداه ضجيجا تافها.. فيكتم الإنسان حزنه الذى غالبا ما يكون نتيجة تأثره بصدمة فتصبح كلماته ثقيلة فتسكن الآلام ضلوعه بصمت يخال للرائى أنه سكون ولكنه ضجيج نفسه الذى يمزقه ليصبح الصمت عرضا لحزن أعجزه عن البوح بالألم والوجع.

  فتعجز الكلمات فى التعبير عنه مهما بلغت من الصدق فقد يكون الصمت أفضل وأعمق ليحمل وراءه أسرار قلوبنا.

وقد نلجأ للصمت للحفاظ على كبرياء نفوسنا فكثير منا من يخجل أن يعلن ألمه لأنه يعتبره ضعفا حتى أنه يرفض البكاء الذى يفضحه.. وقد يقاوم الحنين والاشتياق داخلنا ضجيج الصمت بشكل قد نعجز عن تحمله ولكننا نلجأ للصمت لنخفى ما فى صدورنا خوفا من كلمات تكشفه.

وإذا كنا نحيا فى ضجيج نهرب منه لسكون وصمت فليس معنى ذلك أننا نكره كل ألوان الضجيج.. فنرحب بضجيج الأعياد وفرحة الأطفال ولهوها وحتى شقاوتهم فى منازلنا وضجيج الأفراح الذى يدخل الفرح والسعادة على أنفسنا، وحتى ضجيج تشجيع الجماهير فى الملاعب لمؤازرة فرقهم وأنديتهم.. ليكون الصخب مظهرا من مظاهر حياتنا التى نشتاق إليها من عيد لعيد حتى إننا نتندر عليها حينما نفقدها بسبب مناسبات حزينة أو حتى بسبب ظروف أجبرتنا على الاستغناء عنها مثل تلك التى نعيشها فى أزمة الوباء اللعين.. فنشتاق لمظاهر أفراحنا التى تدخل السعادة على قلوبنا وإلا لماذا نحرم أنفسنا منها مشاركة لآخرين لديهم مصاب أليم.

لكن لا أحد يتحمل الضجيج طوال الوقت فنفوسنا جبلت على الاشتياق للهدوء للتأمل والتعقل.. فالضجيج لا يصنع فكرة ولا يقدم حلا على الرغم أنه قد يكون مقدمة لإيجاد حل، لكن الحلول تكمن فى بيئة التأمل والصمت.. وهو ما نجده فى ضجيج الهتافات والأصوات المدوية الداعية للحق أو الفوضى الكل فيها يتحدث ويصرخ ويهتف قد يكون حماسيا أو مزعجا لكنه ضجيج.. فحتى طبول الحرب تسبق الحرب ولا تسير معها إمعانًا فى التركيز للوصول للنصر.

فحتى لو كان الضجيج لونا من ألوان الوهج فإن الحياة لا تستقيم معه طوال الوقت.. فمثلما يزعجنا الصمت فى الحزن فالضجيج يتلف أعصابنا.

 وهناك أوقات يحتاج فيها الإنسان للأصوات الهادئة فى صمته الإيجابى تساعده على الاسترخاء واستجماع تركيزه وتكون بمثابة تغريد الطيور الذى يشق صمت سكونه ليتعرف على لحن نفسه فى هدوء ليأخذ فرصته فى المراقبة والتأمل والتحليل لاتخاذ قرار فى خلوته مع نفسه فمن الممكن أن يصحح مساره حينما يصمت ويستمع لنفسه.. فالكثير منا من نجح فى أن يفكر ويتحدث لنفسه بصوت عال أو فى صمت المهم أن يعلم كل إنسان ما يدور فى نفسه ولا يتجاهله أو يكبته.. فلا يوجد أغلى من نفسك على نفسك فعليك أن تحاول أن تسعدها فى صمتها أو صخبها.

ألوان الحياة ومظاهرها تتغير من عصر لآخر ودائما ما نتفاجأ بألوان جديدة من الضجيج بسبب التغيرات المتلاحقة لكل أوجه الحياة ويظهر ذلك جليا فى مظاهر الصخب فى كل مناسباتنا وفى كل ألوان الفن فنجد فن الماضى الذى نطلق عليه فن الزمن الجميل الهادئ الذى كان يستمتع الناس فيه بالموسيقى والألحان الهادئة والكلمة الرصينة فى وقت أن كان كل العاملين فى الحقل الفنى عمالقة بدليل خلود أعمالهم واستمرارها حتى وقتنا الحالي.. إلى أن تطور الأمر وظهر ما يسمى بالأغنية الشبابية التى اتخذت اسمها من إقبال الشباب عليها الذين أصبحوا يمثلون جمهورها وبدأ الشباب يتراقصون معها بعد أن كان المستمع يجلس على كرسيه يستمع ويستمتع فى وقار واحترام للفن والفنان.

 ولكن التطور الحادث فى الأغنية فرض نفسه بقوة بوجود جمهورها على الرغم من تحدى استمرار الأغنية الكلاسيكية القديمة.. ثم ظهرت أغانى المهرجانات ولا ينكر أحد مدى الإسفاف فى كلماتها وصخب الموسيقى المصاحبة لها لدرجة أن مطربيها لا يمتون بصلة للطرب فأصواتهم أكثر صخبا من موسيقاهم!!.. فأصبح الفن صخباً فى صخب يرفض جمهوره ما أطلقنا عليه الفن الجميل، بل قد لا يعرفونه أصلا على الرغم من امتداده بوجود بعض من جمهور الماضى أو بعض قليل من الحاضر المستمتع بالهدوء والسكون.. فلا صخب استطاع أن يمحو سكونا وهدوءا ولا العكس حدث.

كل إنسان يختلف عن الآخر فى رغباته وميوله وأحاسيسه ومشاعره وأولوياته وحتى نفس الإنسان قد يتغير من وقت لآخر.. فقد يميل للسكون تارة وللصخب تارة أخرى ليتأرجح بين الاثنين مهما كانت الدرجة.. فالحياة لا تعرف وتيرة واحدة.. الحياة ترفض الملل والنمطية وتبحث عن الخروج عن الرتابة حتى ولو كانت بالتفاهة.. قد ترى أنها تفاهة وقد تكون كل سعادة شخص آخر.. فلا تحكم على أمر يسعد غيرك بأنه غير مجد.. وقد تكون إنسانا جادا طوال الوقت وحين تخلو بنفسك بعيدا عن أعين الناس تخلع لباس الجدية الذى قد يصل لحد التعقيد لترتدي لباس البساطة أو حتى ما تصفه بالتفاهة فلا تظهر بها أمام الناس بسبب بعض القيود التى فرضتها على نفسك.

جميلة هذه الحياة فى اختلاف ألوانها وأشكالها وصورها وتنوعها المبهر الذى يلائم كل الأطياف والأنواع والأشكال ليرضى كل الأذواق.. ويشع بالتغيير والانتقال من حال إلى حال حتما أو بإرادتك، إذا أردت أن تعيش حياتك فعليك أن تتقبل الصخب وتذهب لخلوتك وصمتك متى أردت.. لأنك لا تحيا وحدك وما تملكه هى أسرار نفسك تخبئها فى صمتك أو كلامك.. لنحمل نحن والحياة مظاهر الصمت والضجيج فى كل شيء.. حتى الموت الساكن تسبقه آهات الاحتضار ويعقبه نحيب وعويل المشيعين الذين سكن قلوبهم صمت الألم ووجع الحزن الذى خلق معه ضجيجا مؤسفا نشتاق معه لضجيج مفرح.. حتى وإن شكونا فالتعود حتما يجعلنا نستمر بين هذا وذاك ليكون فى الضجيج قوة والصمت قوة لنصبح هكذا نكون بين ضجيج وصمت.

Dr.Randa
Dr.Radwa